منذ القرن التاسع عشر شهدت بلدان عربية عدة ومنها سوريا تدخلات أوروبية في شؤون الدولة العثمانية بحجة حماية الأقليات الدينية ما أورث شعورًا بالتوجس تجاه الأقليات.
وبعد اتفاقية سايكس بيكو وقعت سوريا تحت الانتداب الفرنسي وذاقت ويلات الاحتلال 26 عامًا، وعملت فرنسا على تعميق الانقسام الطائفي للسيطرة على المجتمع وتقسيم سوريا إلى أربع دول على أساس طائفي وجهوي: دولة العلويين، دولة الدروز، دولة حلب، ودولة دمشق.
سوريا بلد متعدد الطوائف والإثنيات
ساهمت القضية الوطنية والنضال ضد المستعمر في تخفيف وطأة الطائفية، وحين نالت سوريا استقلالها في عام 1946 عادت النزعة الطائفية إلى الظهور بطرق مختلفة.
كان حزب البعث السوري قد تأسس في مطلع الأربعينيات على يد ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار وآخرين كحزب قومي عابر للطوائف، إذ دعا الحزب إلى إيديولوجية تقوم على الجمع بين الاشتراكية والقومية، واندمج لاحقًا مع الحزب العربي الاشتراكي الذي أسسه وقاده أكرم الحوراني ليصبح حزب البعث العربي الاشتراكي.
وفي عام 1958 اشترط جمال عبد الناصر حلّ الأحزاب وإلغاء النظام الديمقراطي كشرط للوحدة الاندماجية بين مصر وسوريا. كان حزب البعث أحد الأحزاب التي تم حلها ولجأ بعض أعضائه إلى مواصلة العمل بشكل سري، وشكلوا فيما بعد نواة عودة الحزب بعد فشل الوحدة.
جاء محمد عمران ورفاقه أحمد المير وعبد الكريم الجندي وصلاح جديد وحافظ الأسد وشكلوا اللجنة العسكرية واستولوا على السلطة عبر انقلاب عسكري. كان عدد أعضاء حزب البعث المدنيين وقت الانقلاب قليلًا جدًا، الأمر الذي استدعى فتح باب العضوية لتأسيس قاعدة حزبية في المجتمع السوري لدعم الانقلابيين.
انقسام الانقلابيين
في يوليو/ تموز عام 1963 نجحت اللجنة العسكرية في تحقيق انقلاب على النظام الديمقراطي وتصفية الكتل العسكرية المنافسة على أساس طائفي وجهوي، الأمر الذي زاد من حدّة الصراع على السلطة داخل الجيش.
قام الانقلابيون الذين يقودهم ضبّاط علويون بعمليات تجريف واسعة داخل الجيش ضد الضباط السنّة سواء بتسريحهم من الجيش أو عدم قبولهم في الكلية العسكرية ومراكز التدريب ومنعهم من الترقي وتقريب الضباط العلويين وتعزيز وجودهم في الجيش على حساب الضباط الآخرين.
وفي النصف الثاني من عام 1965، انقسم الانقلابيون على أنفسهم بين كتلتين، رئيس البلاد ورئيس المجلس العسكري ووزير الدفاع والداخلية أمين الحافظ ومن حوله الضباط السنّة ومعهم محمد عمران في مواجهة صلاح جديد وحافظ الأسد العلوييْن وهو صراع حسمه انقلاب 23 فبراير/ شباط عام 1966 بقيادة جديد والأسد ومعهما الدرزي سليم حاطوم.
صار صلاح جديد الأمين العام المساعد للقيادة القطرية لحزب البعث، وحافظ الأسد وزيرًا للدفاع، واستمرت عملية التسريح في الجيش الموجهة ضد الضبّاط السنّة وزيادة وجود الضباط العلويين في قيادة الجيش.
حسم الانقلاب لصالح حافظ الأسد
كان حاطوم الدرزي هو رأس حربة الانقلاب وأحد أبرز أسباب نجاحه ورغم ذلك جرى استبعاده وتهميشه وأُسندت إليه مهمة حراسة مبنى الإذاعة والتلفزيون السوري، فحاول استعادة مكانته بالتحالف مع الضبّاط الدروز وبعض قيادات السنّة الناقمين في الجيش، لكنه فشل واضطر للهروب إلى الأردن.
وبعد هزيمة عام 1967، ظن حاطوم أنّ أصدقاءه بحاجة إلى الاتحاد معه من جديد، فعاد إلى سوريا ليفاجئ بالقبض عليه وتعذيبه ثم إعدامه في 26 يونيو/ حزيران عام 1967.
سرعان ما ظهرت الخلافات بين الأسد وجديد، حيث حسمه الأسد لصالحه بانقلاب عسكري في 16 من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1970 ليعلن بعد عام واحد توليه رئاسة الجمهورية السورية وبداية حقبة جديدة من احتكار السلطة في الطائفة العلوية وتوريثها في بيت الأسد.
أول رئيس علوي لسوريا
كان حافظ الأسد هو أول رئيس علوي لسوريا. جاء الأسد من خلفية قومية اشتراكية تقوم على معاداة الإمبريالية وإعادة توزيع الثروة على الطبقات الكادحة وبشكل خاص في الأرياف والقومية العربية.
في نهاية 1979 واجه حكم حافظ الأسد انتفاضة مسلحة في سوريا واستطاع حصرها في الإخوان المسلمين السوريين، ثم واجه في فبراير/ شباط عام 1982 عصيانًا مسلحًا في حماة يقوده جماعة الإخوان المسلمين وتنظيم الطليعة المقاتلة.
حاصرت قوات النظام المدينة بقيادة رفعت الأسد شقيق الرئيس وارتكبت سلسلة كبيرة من المجازر المروعة، حيث قصفت البيوت فوق رؤوس الأهالي ومسحت أحياء كاملة بسكانها، وفي شهر واحد قتل نحو 20 ألف شخص وفقد الآلاف واعتقل الآلاف أيضًا.
توطيد علاقات النظام داخليًا وخارجيًا
ووفق دراسة مؤسسة "راند" عن تاريخ الطائفية في الشرق الأوسط، تمكن الأسد داخليًا من إحكام قبضته على السلطة ومنح جماعات الأقليات امتيازات وإمكانات وصول بما في ذلك طائفته العلوية، في الوقت الذي أدام فيه العلمانية مع تمكين شبكات رجال الدين السنّة التي يوافق النظام عليها.
ومن الناحية الاقتصادية، عمل الأسد على تأميم ثروات طبقات السنّة والمسيحيين مقابل تقديم ولائهم له.
وعلى الصعيد الخارجي، عمل الأسد على قضايا القومية العربية ومقاومة إسرائيل ودعم الجماعات الشيعية مثل حزب الله اللبناني والجماعات الإسلامية الفلسطينية السنّية مثل حركتي حماس والجهاد الإسلامي، ما منح حكمه قاعدة دعم عريضة وصرف الانتباه عن حقيقة وجود نظام دكتاتوري يستند إلى أقلية.
كذلك، وطدَ حافظ الأسد علاقة إستراتيجية ووثيقة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية بعد حلّ الاتحاد السوفييتي الحليف والداعم الرئيس لسوريا أوائل التسعينيات.
نجح الأسد في دمج قطاعات كبيرة من المجتمع السوري في النظام وخطابه القومي الشامل، لكنه استمد قوته أيضًا من استغلال المصالح الجماعية واستند جوهر قاعدة سلطته على أساس علوي حيث استفادت هذه الطائفة كثيرًا في فترة حكمه على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، وتبادلت المصالح معه ما أدى إلى مراكمة غضب لدى العديد من السوريين زادت حدته في فترة حكم بشار الأسد وساهم لاحقًا في تطييف الصراع بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011 وتحولها إلى صراع مسلح.
هل حزب البعث السوري طائفي؟
يرى الكاتب والباحث والأكاديمي المتخصص بالحركات الدينية عبد الرحمن الحاج أنّ هناك التباسًا في مفهوم الطائفية نفسه، وأن الاعتقاد بأن مفهوم الطائفية يعني التدين والعمل من داخل طائفة معينة لأهداف دينية "لا يمكن التعاطي معه بالنظر إلى حزب البعث وأشكال الحكم الطائفي".
ويفسّر بأن "الطائفية هي أن تكون جماعة دينية ما من السكان تشعر، ويتم تكوين متخيل لها، بأن لها حقوقًا خاصة ومتمايزة عن المجتمع وتعمل على هذا الأساس من أجل تحقيق مكاسب سياسية في الجماعة".
ويعتبر أن حزب البعث لم يكن مؤسسًا على الطابع الطائفي في بدايته، "لكن النهايات التي انتهى إليها الحزب سواء في سوريا أو العراق كانت نهايات طائفية".
ويرجع سبب ذلك إلى "طبيعة الأشخاص الذين استولوا على السلطة وأرادوا استخدام حزب البعث في مشاريعهم الشخصية"، مؤكدًا أنّ هذه الشخصيات استخدمت حزب البعث واستفادت منه لتعبئة المجتمع لصالح السلطة الفردية وتكريسها.
ويرى أن حزب البعث منذ تأسيسه في سوريا كان حزبًا متعددًا وتأسس على أساس قومي ووطني، لكن لاحقًا على مستوى التطورات والانقسامات الداخلية في الحزب وحصول الانقلاب الذي أوصل حزب البعث إلى السلطة كان عبر لجنة طائفية.
جذور الطائفية تعود إلى 1963
أما الباحث ومدير مركز حرمون للدراسات المعاصرة سمير سعيفان فيرى أن موضوع طائفية نظام الأسد يعد من المواضيع التي تشغل السوريين منذ سنوات طويلة، لافتًا إلى أنّ حزب البعث منذ تأسيسه "كان حزبًا قوميًا علمانيًا ولم يكن حزبًا طائفيًا".
ويعتبر أنّ المشكلة الأساسية في هذا الموضوع تكمن في "استيلاء حزب البعث على السلطة عبر انقلاب عسكري عام 1963 وكان بينهم ضباط علويون وسنّة وإسماعيليون ودروز".
ويوضح أنّ الصراع بين الضباط كان في البداية ينحصر ضد الضباط السنّة نتيجة ميولهم الناصرية، حيث "لم يكن هناك فرز مذهبي بقدر ما كان فرزًا سياسيًا مع تلوينات طائفية".
ويرى أنه حين جرى الفرز بين الضبّاط، أصبح الضباط من الأقليات هم الذين يسيطرون على السلطة، مؤكدًا أنّ "الطائفية بدأت من هذه النقطة".
ويشير إلى أنّ "جذور الطائفية تعود إلى عام 1963 وتكرست بعد عام 1970 عند وصول حافظ الأسد إلى السلطة وتأميم الاقتصاد والتجارة لصالح الدولة وتجريد العائلات السنية من ملكيتها من الأراضي والشركات وحرمانهم من سلطتهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية".
ويبين أن "الطائفية تجلت بسيطرة الضباط العلويين على مقاليد الجيش والسلطة والقطاعات الهامة في الدولة". ويوضح أن دافع حافظ الأسد من وراء الاستعانة بطائفته العلوية كان يهدف إلى "حمايته" والحفاظ على السلطة. إضافة إلى تحركاته لاحقًا كانت تهدف إلى حفاظه على السلطة وتوريث نجله.