الثلاثاء 17 Sep / September 2024

وقود للمدافع في المعركة.. المقاتلون العرب في الحرب الأهلية الإسبانية

وقود للمدافع في المعركة.. المقاتلون العرب في الحرب الأهلية الإسبانية

شارك القصة

حلقة سابقة من برنامج "قراءة ثانية" تسلط الضوء على الدور الذي لعبه المقاتلون العرب في الحرب العالمية الثانية (الصورة: مكتبة تاميمنت)
انضمّ مئات المتطوّعين العرب إلى الألوية الدولية في الدفاع عن الحكومة الإسبانية ضد القوات القومية بقيادة فرانكو، لكن التاريخ لم يُنصفهم.

حضر المقاتلون العرب في الحرب العالمية الثانية، ولو غاب التوثيق، ما فتح المجال أمام سرديات مختلفة تناول بعضها الحرب من وجهة سياسية، وسط تفاوت في الآراء حول فعاليّة هذه المشاركة في تحقيق النصر وتحرير أوروبا من النازية.

لكن دور العرب ضمن قوات الحلفاء قد لا يكون "الشاهد التاريخي" الوحيد على دور المقاتلين العرب في الحروب، حيث لم يُنصف التاريخ أيضًا الدور الذي لعبه العرب في القضية الجمهورية خلال الحرب الأهلية الإسبانية عام 1962.

فقبل 85 عامًا تقريبًا، كان مصير العاصمة الإسبانية مدريد على المحك حين بدأت القوات القومية المتمرّدة هجومها على المدينة، والمدافعين الجمهوريين عنها، بحسب ما يوثّق موقع "ميدل إيست أونلاين".

ولعلّ ما يثير الانتباه في رواية الموقع أنّ العنصر الرئيسي للهجوم الذي بدأ في 8 نوفمبر/ تشرين الثاني، واستمر حتى سقوط المدينة في مارس/ آذار 1939، هو الجنود المغاربة الذين خدموا تحت قيادة الجنرال فرانسيسكو فرانكو.

وإذا كان الوجود العربي في الحرب الأهلية الإسبانية حقيقة معترفًا بها على نطاق واسع في كتب التاريخ، إلا أن الدور الذي لعبه العرب في القضية الجمهورية لم يحظ بالقدر نفسه من الاهتمام.

المقاتلون العرب في "اللواء الدولي الحادي عشر"

طال حصار مدريد، الذي استمرّ 28 شهرًا في محاولة للسيطرة على المدينة في أعقاب هجوم نوفمبر 1936، جزئيًا بسبب الدعم الذي تلقّاه الجمهوريون من الكتائب الدولية. وكانت هذه الكتائب عبارة عن وحدات عسكرية مكوّنة من متطوّعين أجانب من جميع أنحاء العالم، معظمهم من الأوروبيين، وصلوا بالآلاف للدفاع عن الحكومة الإسبانية.

وبحلول 9 نوفمبر، وصل اللواء الدولي الحادي عشر، الذي يبلغ قوامه 1900 رجل، إلى جبهة مدريد، ومن بينهم عدد من المتطوعين العرب.

وبسبب التوثيق المحدود وغياب البحث التاريخي، لا يُعرف الكثير عن العرب الذين حملوا السلاح للدفاع عن إسبانيا وحمايتها من براثن الفاشية. نتيجة لذلك، تظل العديد من أسماء المتطوعين العرب غير معروفة.

كما أن تحديد عددهم هو مهمة شاقة أيضًا، نتيجة عدم انتظام حفظ السجلات بين القوات الجمهورية، وسوء الترجمات، والارتباك بسبب الجنسية الاستعمارية. كما سُجّل العديد من العرب الذين تطوّعوا بصفتهم مواطنين فرنسيين، حيث كانت العديد من دول شمال إفريقيا لا تزال تحت الحكم الاستعماري عندما اندلعت الحرب الأهلية الإسبانية. وبالإضافة إلى ذلك، هناك أخطاء إملائية في كتابة الأسماء العربية، وبالتالي يتكرر تسجيلها بأشكال مختلفة.

الجنود المغاربة يعززون القوات الوطنية في برغش في 25 أغسطس 1936
الجنود المغاربة يعززون القوات الوطنية في برغش في 25 أغسطس 1936- غيتي

وبينما يزعم بعض المؤرخين أن ما يصل إلى 1000 عربي انضموا إلى الألوية الدولية، أجرى المؤرخ الكتالوني أندرو كاستلس بحثًا مكثفًا ووجد 716 حالة مسجلة.

وكان حوالي نصف العرب الذين تطوعوا في إسبانيا جزائريين، مع انضمام 493 إلى القوات الجمهورية، ونجاة 332 منهم.

ونقل الموقع عن المخرجة المصرية أمل رمسيس، التي أخرجت فيلم "لقد جئت من بعيد"، وهو فيلم وثائقي عن الوجود العربي في الحرب الأهلية الإسبانية، قولها: "كانت هناك حركة فوضوية قوية في الجزائر في ذلك الوقت، مما دفع الكثيرين للانضمام إلى هذه الكتائب؛ ولكن من الناحية العملية كان من الأسهل عليهم الوصول إلى إسبانيا نظرًا لوجود قوارب مباشرة من وهران إلى أليكانتي".

أما المؤرخ كاستلس وأرشيف الدولة الروسي للتاريخ الاجتماعي والسياسي، فيشيران إلى 211 مغربيًا، و11 سوريًا، وأربعة فلسطينيين، وثلاثة مصريين، وعراقيين، ولبناني ضمن الألوية الدولية.

وتتنوّع الدوافع وراء مشاركة العرب في الحرب الأهلية الإسبانية، على الرغم من أن رمسيس تعتقد أنهم كانوا مدفوعين بفكرة تحرّرهم في المستقبل.

جنود مغاربة خلال توجّههم إلى مدريد عام 1939
جنود مغاربة خلال توجّههم إلى مدريد عام 1939- غيتي

وتقول رمسيس: "المتطوعون العرب لم يتطوّعوا تضامنًا مع إسبانيا فحسب، بل أيضًا للدفاع عن مستقبلهم. فبالنسبة لهم، كان انتصار الجمهوريين في إسبانيا يعني إنهاء استعمار العالم العربي على المدى الطويل، وسيكون بداية لتحريرهم".

فلسطينيون على جبهات القتال

وكان من أبرز العرب الذين شاركوا في الحرب الأهلية، الصحافي الفلسطيني الشيوعي نجاتي صدقي، الذي اعتقد أن سقوط الفاشية الأوروبية سيتيح مزيدًا من تقرير المصير، والاستقلال بين الشعوب العربية.

وكتب صدقي في مذكراته بعنوان "شيوعي فلسطيني في الكتائب الإسبانية الدولية": "لا عذر يمنع العرب من التطوّع. ألا نطالب أيضًا بالحرية والديمقراطية؟ ألن يتمكن المغرب العربي من تحقيق حريته الوطنية إذا هُزم الجنرالات الفاشيون؟".

ويتذكّر صدقي تقديم نفسه لميليشيات الحكومة المحلية الإسبانية، قائلًا: "أنا متطوّع عربي، لقد جئت للدفاع عن حرية العرب على الجبهة في مدريد. لقد جئت للدفاع عن دمشق في غوادالاخارا، والقدس في قرطبة، وبغداد في توليدو، والقاهرة في الأندلس، وتطوان في برغش".

لم يلتحق صدقي رسميًا بالألوية الدولية، ولكن بدلًا من ذلك أرسلته الأممية الشيوعية (كومنترن) إلى إسبانيا في مهمة دعائية لزعزعة استقرار القوات القومية. ووصل إلى البلاد في أغسطس/ آب 1936، متنكرًا بهوية مغربي تحت الاسم المستعار مصطفى بن جالا، وكُلّف بمهمة القيام بدعاية تهدف إلى تشجيع القوات المغربية التي تقاتل في الجانب القومي على الفرار.

ولتحقيق هذا الهدف، كتب صدقي، في صحيفة "موندو اوبريرو" (Mundo Obrero) الشيوعية، وشكّل الجمعية الإسبانية-المغربية لمناهضة الفاشية، ونظّم البث الإذاعي باللغة العربية، ونشر الكتيبات، وزار الخنادق على طول الخطوط الأمامية لحثّ المغاربة على الجانب الآخر للانضمام إلى صفوف الجمهوريين.

وعبر مكبّرات الصوت، توجّه صدقي للمقاتلين قائلًا: "أنصتوا إلي يا إخوتي، أنا عربي مثلكم. أناشدكم التخلي عن هؤلاء الجنرالات الذين يعاملونكم معاملة جائرة. انضموا إلينا، سنرحب بكم كما ينبغي، سندفع لكل واحد منكم راتبه اليومي، وكل من لا يريد القتال سيعود إلى بلده".

ولكن معظم محاولاته لتشجيع الفرار الجماعي فشلت في الغالب. فقد ترك قلة من المغاربة صفوف فرانكو. كما أنه أخطأ ببثّ رسائله باللغة العربية الفصحى، التي لم يتكلّمها أو يقرأها العديد من المغاربة الذين يخدمون تحت قيادة فرانكو.

عنصرية الجمهوريين

لم يضع الجانب الجمهوري المثل العليا التي زعم الدفاع عنها، والتي جذبت العديد من العرب إلى القضية دائمًا موضع التنفيذ. فعانى الكثير من العرب، الذين قاتلوا مع الجمهوريين، من العنصرية على أيدي زملائهم الإسبان.

كان الشعور بعدم الثقة تجاه العرب أمرًا شائعًا في المجتمع الإسباني آنذاك، مدفوعًا بالانقسامات التاريخية، والتحيّز العنصري، والصور النمطية السلبية، انعكس ذلك في الصحافة الجمهورية.

وينقل الموقع عن الصحافي والمؤرخ مارك المودوفار قوله: "كانت العنصرية متأصلة في وسائل الإعلام الجمهورية، وقد أدت إلى تفاقم التحيز التاريخي المتأصل في المجتمع الإسباني. لقد صوّروا العرب والمغاربة بطريقة مهينة وغير إنسانية على الإطلاق".

فعلى سبيل المثال، نشرت صحيفة "فراجوا سوشيال" الجمهورية رسمًا كاريكاتوريًا بعنوان "الحضارة المسيحية"، يصوّر جنديًا مسلمًا وهو يهاجم امرأة وطفلًا، ويظهر الهلال والنجم بوضوح على خوذته ذات الطراز الشرقي.

رسم كاريكاتوري جمهوري يصوّر جنديًا مسلمًا يهاجم امرأة وطفلًا
رسم كاريكاتوري جمهوري يصوّر جنديًا مسلمًا يهاجم امرأة وطفلًا -Fragua Social

في مذكراته، تحدّث صدقي عن عدم الثقة هذا على نطاق واسع، عندما وصف أول لقاء له مع الميليشيات الجمهورية عند وصوله إلى برشلونة، حيث يتذكر أنه تمّ الترحيب به بريبة. فسأله أحد الإسبان: "هل أنت عربي حقًّا؟ مغربي؟  هذا مستحيل، المغاربة يقاتلون مع الفاشيين، ويهاجمون مدننا ويقتلوننا، وينهبوننا ويغتصبون نساءنا".

وقال ألمودوبار للموقع: "كان السبب الكامن وراء هذا الموقف هو عدم القدرة على فهم العرب الذين واجهوهم بصفتهم أفرادًا لديهم دوافعهم الأخلاقية الخاصة. كل شيء كان غارقًا في العنصرية، كانوا لا يعتبرونهم يتماهون من الناحية السياسية مع توجهاتهم وأجندتهم السياسية".

وعزّز الوجود الكبير للجنود المغاربة في قوات فرانكو، الصور النمطية السلبية القائمة عن العرب وزاد من سوئها.

كما قوبلت مقترحات صدقي المؤيدة للعرب بمقاومة من الحزب الشيوعي الإسباني، ولا سيما من المناضلة الشيوعية الإسبانية دولوريس إيباروري، المعروفة بشعارها "No pasaran!"، (لن يمروا!)،  وهو شعار صدر خلال معركة مدريد.

كما تسبب إنشاء جمعية مناهضة الفاشية الإسبانية المغربية التي قادها صدقي في حدوث توتر بين أفراد الحزب. ورُفضت بشدة خططه لحرمان قوات فرانكو من "علف المدافع" (الجنود الذين لا تقدّر القيادة حياتهم)، من خلال التحريض على ثورة مناهضة للاستعمار في الريف المغربي.

غلاف مجلة "ايستامبا" عام 1936 بعنوان "الميليشيات المغربية تحارب من أجل الجمهورية"
غلاف مجلة "ايستامبا" (Estampa Magazine) عام 1936 بعنوان "الميليشيات المغربية تحارب من أجل الجمهورية"- مجلة ايستامبا

ويُزعم أن إباروري أنهت أي حديث عن تحالف مع "جحافل المغاربة، المتوحشين، السكارى الذين يغتصبون نساءنا وبناتنا".

محبطًا من العداء بين الجمهوريين، غادر صدقي إسبانيا في ديسمبر/ كانون الأول 1936. وعن ذلك، كتب في مذكراته: "كان هناك انعدام تام للثقة تجاه أي مغربي. فوجئنا أكثر من مرة عندما علمنا بقتل الجمهوريين لسجناء مغاربة. لقد أيقنت عندها أن مهمتي كانت تفشل".

المغاربة يقاتلون من أجل فرانكو

كان عدد العرب الذين يقاتلون على الجبهة الجمهورية، أقلّ بكثير من العرب في جيش فرانكو الإفريقي، الذي اعتمد عليه الدكتاتور بشدة طوال الصراع. تألف جيش إفريقيا من حوالي 60 ألف جندي مغربي، قُتل منهم ما بين 18 و20 ألفًا.

كان جيش إفريقيا من مخلّفات حرب الريف في عشرينيات القرن الماضي، وتألف من مجنّدين محليين من جميع أنحاء شمال المغرب. اقتنع الكثيرون بالانضمام إلى القضية القومية بحجة الواجب الديني الجماعي ضد الجمهوريين المناهضين للدين، وكذلك من أجل المكافآت المالية.

جنود مغاربة في نقطة تفتيش في اسبانيا عام 1937
جنود مغاربة في نقطة تفتيش في اسبانيا عام 1937 - ا ف ب

وحول هذا، قال سيباستيان بلفور، المؤرخ وأستاذ الدراسات الإسبانية المعاصرة في كلية لندن للاقتصاد: "كانت هناك محاولات لتعبئة المجندين على الجانب القومي من خلال الحديث عن كفاحهم المشترك ضد الإلحاد. كانت في الأساس فرصة للفقراء للغاية لكسب بعض المال لأسرهم".

وعلى الرغم من كونهم عنصرًا رئيسيًا في قوات فرانكو، أوضح بلفور أنه "تم إرسالهم أساسًا كوقود للمدافع في المعركة. ومع ذلك، فقد أولى القوميون احترامًا واهتمامًا خاصين لاحتياجاتهم الدينية، وجلبوا الأئمة معهم وسمحوا لهم بالصلاة اليومية".

وفي نهاية الحرب، عين فرانكو الحرس المغربي "Guardia Mora"، مرافقين شخصيين له في احتفالات النصر. امتطوا الأحصنة، وارتدوا عباءات بيضاء وحمراء، وأحاطوا سيارته الرولس رويس خلال المسيرات الرسمية حتى تمّ حله عام 1956.

لكن امتنان فرانكو للمغاربة الذين قاتلوا من أجله كان محدودًا. فأولئك الذين خدموه، جرى إبعادهم على الفور عند انتهاء الحرب، وأُعيدوا إلى المغرب في كثير من الأحيان مع معاش تقاعدي زهيد.

وقال بلفور: "كانت هناك درجة معينة من عدم الاهتمام بمصير قدامى المحاربين في الحرب الأهلية من قبل السلطات القومية الجديدة. وبصرف النظر عن المعاشات التقاعدية، لا أعتقد أنه كان هناك الكثير من الاهتمام لطريقة معيشتهم عند عودتهم إلى المغرب".

وفي حديثه في الفيلم الوثائقي "المنسيّ"، يلخص مغربي قاتل من أجل الوطنيين تجربته، فقال: "كان فرانكو نذلًا جاحدًا، بعد فوزه بالحرب نسي أمرنا. لم نعد مفيدين له".

تابع القراءة
المصادر:
العربي - ترجمات
Close