الخميس 21 نوفمبر / November 2024

سماسرة معتقلات النظام السوري.. احتيال ينخرط به أصحاب أهم المناصب

سماسرة معتقلات النظام السوري.. احتيال ينخرط به أصحاب أهم المناصب
الأحد 11 يونيو 2023

شارك القصة

ينشط سماسرة معتقلات النظام السوري لابتزاز ذوي الموقوفين بغياب أي آليات بحث رسمية توفرها السلطات
ينشط سماسرة معتقلات النظام السوري لابتزاز ذوي الموقوفين بغياب أي آليات بحث رسمية توفرها السلطات

خلال سنوات الأزمة السورية كانت سجون النظام ثقبًا أسود يبتلع مئات الألوف من المعتقلين، لتفتح الباب أمام مصطلحات بدت غير مألوفة، من "تجارة الاعتقال"، إلى "سماسرة المعتقلات".

فرغم صدور سلسلة من العقوبات الدولية على قيادات أمنية في النظام وانعقاد عدد من المؤتمرات التفاوضية التي كان ملف المعتقلين أحد عناوينها الرئيسة، إلّا أنه لم يشهد أي انفراجات حقيقية.

وفي مايو/ أيار 2022، وقف المئات من ذوي المعتقلين السوريين حاملين صور أقربائهم وأحبائهم منتظرين خروج المفرج عنهم إثر صدور "مرسوم عفو رئاسي".

وتكشف الإحصائيات أن جميع مراسيم العفو الرئاسي أسفرت عن خروج 7300 معتقل فقط، فيما تطوي غياهب الاعتقال والإخفاء القسري 135 ألفًا على الأقل.

تطوي غياهب الاعتقال والإخفاء القسري 135 ألفًا على الأقل
تطوي غياهب الاعتقال والإخفاء القسري 135 ألفًا على الأقل

"تجارة الاعتقال".. حالة خلقها النظام

وأصبح هناك ما يُعرف بـ"تجارة الاعتقال"، وهو مُصطلح يُستخدَم للتعبير عن الحالة التي خلقها النظام، عبر استغلال الناس الذين اعتُقلوا على خلفية معارضتهم للنظام وعائلاتهم كمصدر للدخل ولإثراء المسؤولين والأجهزة الأمنية والقضائية وغيرها، بحسب ما يقول الصحافي والباحث السوري سلطان جلبي.

وتوضح مسؤولة ملف المعتقلين في الشبكة السورية لحقوق الإنسان نور الخطيب من جهتها، أن ظاهرة "ابتزاز" المعتقلين وذويهم، وحتى في بعض الأحيان دائرة الأصدقاء، بدأت مع بدء عمليات الاعتقال في سوريا، علمًا أنّ هذه العمليات كانت من أولى الانتهاكات التي مارسها النظام على الشعب السوري.

وبحسب إحصائيات الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فقد تجاوز عدد الذين تم اعتقالهم على يد النظام السوري ثم أفرج عنهم منذ مارس/ آذار 2011 أكثر من مليون شخص، بينما لا يزال 135 ألفًا على الأقل رهن الاعتقال والإخفاء القسري حتى الآن، فيما تم توثيق مقتل أكثر من 14 ألفًا تحت التعذيب.

تكشف الإحصائيات أن جميع مراسيم العفو الرئاسي أسفرت عن خروج 7300 معتقل فقط
تكشف الإحصائيات أن جميع مراسيم العفو الرئاسي أسفرت عن خروج 7300 معتقل فقط

مخاوف الأهالي وغياب الآليات الرسمية

منذ بداية الثورة السورية، ومع انتشار أنباء وفاة المعتقلين تحت التعذيب في سجون النظام، تصاعدت مخاوف أهالي المختفين قسريًا حول مصير أبنائهم وسعى الآلاف منهم إلى إنقاذ أقاربهم المعتقلين.

وأمام إغلاق الطرق الرسمية للحصول على حقوقهم بالكشف عن مكان اعتقال ذويهم أو التهم الموجّهة إليهم، اتجه الأهالي نحو وسطاء للتواصل مع المتنفذين في الأجهزة الأمنية والذين باتوا يُعرفون بـ"المفاتيح".

وبحسب الخطيب، فقد تعمّد النظام السوري عدم توفير أي نوع من آليات البحث عن المعتقلين لديه، من أجل دفع الأهالي إلى الطرق غير الرسمية.

أكثر من ذلك، يشير جلبي إلى أنّ الأجهزة القضائية كذلك لا تملك أي معلومات عن المعتقلات السرية أو الأفرع والمسجونين فيها.

تعمّد النظام السوري عدم توفير أي نوع من آليات البحث عن المعتقلين لديه، من أجل دفع الأهالي إلى الطرق غير الرسمية
تعمّد النظام السوري عدم توفير أي نوع من آليات البحث عن المعتقلين لديه، من أجل دفع الأهالي إلى الطرق غير الرسمية

"رعب" أهالي المعتقلين على أبنائهم

مع انتشار صور قيصر مطلع عام 2014 والتي وثّقت وفاة 11 ألف معتقل تحت التعذيب في سجون النظام، استغل السماسرة تصاعد الرعب بين أهالي المعتقلين في توسيع نشاطاتهم.

وقد توصّل فريق "العربي" إلى فاروق أبو بكر الذي شارك في العديد من المفاوضات مع النظام السوري وخاض تجارب عديدة في التواصل مع تجّار الاعتقال.

ويقول أبو بكر المسؤول السابق عن عمليات التبادل مع النظام السوري في حديث إلى "العربي": "إن أغلب الأفرع يمكن أن نصل لها بحيث نحصل على معلومة، كما يمكن إخراج أي معتقل من أي فرع مقابل المال"، لافتًا إلى أن سجن صيدنايا من أكثر الأماكن تكتمًا على المعلومات.

تكشف الإحصائيات أن جميع مراسيم العفو الرئاسي أسفرت عن خروج 7300 معتقل فقط، فيما تطوي غياهب الاعتقال والإخفاء القسري 135 ألفًا على الأقل

وتواصل فريق "العربي" مع مجموعة من ذوي المعتقلين وتبين كيف يعمل السماسرة على إخفاء أي أثر لتعاملاتهم من خلال استخدام الأسماء الوهمية وتفعيل خاصية إخفاء الرسائل، إضافة إلى حذف المحتالين منهم حساباتهم على مواقع التواصل بشكل دوري وتغيير أرقام هواتفهم بين الفينة والأخرى.

وبعد محاولات عديدة، تمكن الفريق من الوصول إلى أحد السماسرة والذي زوّده باسم أسير لقوات النظام لدى المعارضة واشترط عليه السعي لإطلاق سراحه مقابل إخراج أي معتقل يطلبه فريق "العربي".

وتلقي هذه الحالة عبئًا إضافيًا على كاهل الأهالي من خلال رمي الكرة في ملعبهم بالتفاوض لإطلاق سراح أسرى قوات النظام المسلحة، حيث يحوّل هذا الإجراء المعتقل إلى رهينة ويربط مصيره بمصير مقاتل أسِر في ساحة المعركة.

شارك فاروق أبو بكر في العديد من المفاوضات مع النظام السوري وخاض تجارب عديدة في التواصل مع تجّار الاعتقال
شارك فاروق أبو بكر في العديد من المفاوضات مع النظام السوري وخاض تجارب عديدة في التواصل مع تجّار الاعتقال

شهادات معتقلين سابقين في سجون النظام

توجّه فريق "العربي" إلى الشمال السوري حيث تغصّ المناطق بآلاف المعتقلين المفرج عنهم. وهناك، استمع من علاء فطراوي ووالده، إلى قصّة خروج الأب المتقاعد من أقبية الأفرع الأمنية.

يقول علاء إنّ والده اعتُقِل في عام 2016، مشيرًا إلى أنّ سمسارًا كان ينقل له أخبار والده بين الفينة والأخرى، من دون أن يعلم الوالد بذلك.

أما عمر المعتقل السابق، فيقول: "في المعتقل لا أسماء للمعتقلين بل أرقام، وأنا كنت أحمل الرقم 13". كما ينقل عمر بحسرة ودمعة المشاهد داخل المعتقل، متحدثًا عن مشاعر الخوف التي انتابته على مصيره.

إلى ذلك، أجرى فريق "العربي" عشرات اللقاءات مع المعتقلين وذويهم خلف الكواليس، لكنهم امتنعوا عن تسجيل شهاداتهم خوفًا من إجراءات النظام العقابية، بينما وافق آخرون على الجلوس أمام الكاميرا من دون الكشف عن هويتهم.

بين هؤلاء "أسامة" الذي يروي كيف تم اعتقاله ثم تحويله إلى محكمة الإرهاب، وفي تلك الفترة تمكن أهله من التعرف على محام يستطيع تحويله إلى محكمة الأحداث مقابل مبلغ كبير من المال.

يروي عمر فطراوي بعض التفاصيل من تجربته المريرة في معتقلات النظام
يروي عمر فطراوي بعض التفاصيل من تجربته المريرة في معتقلات النظام

احتيال عبر الإنترنت وكسب غير مشروع

وبينما أصبحت تجارة الاعتقال ظاهرة تعمّ أرجاء سوريا، وجد البعض فيها فرصة جديدة للاحتيال عبر الإنترنت والكسب غير المشروع.

وتحوّلت صفحات الفيسبوك إلى منجم بيانات يضمّ أسماء آلاف المعتقلين وشبكات احتيال تستغل تعليقات الأهالي الباحثين عن أخبار ذويهم للتخطيط لعمليات الاحتلال.

على الرغم من السرية التي تكتنف عمليات التحويل والمبالغ المدفوعة لسماسرة تجارة الاعتقال، إلّا أن دراسة أجراها الباحث سلطان جلبي تُظهر أن ضباط الأمن يحوزون على حصة الأسد بحوالي 40% من المبالغ المدفوعة، يليهم القضاة بنسبة 26%

وفي هذا السياق، تتحدث بثينة، وهي شقيقة أحد المعتقلين في سجون النظام، عن تجربتها مع شبكات الاحتيال هذه، وكيف كان يُطلَب دفع الأموال مقابل كل معلومة، ولو لم تكن حقيقية.

وتقول مسؤولة ملف المعتقلين في الشبكة السورية لحقوق الإنسان نور الخطيب إنّ أهالي المعتقلين ينقادون في الغالب إلى محاولات والابتزاز، رغم علمهم بأنّهم ربما يتعرّضون لعملية احتيال، لكنّ الحالة النفسية التي يعيشها الأهالي والضغط العاطفي يدفعهم إلى الانسياق وراء هذه العمليات.

وجد البعض في "تجارة الاعتقال" فرصة جديدة للاحتيال عبر الإنترنت والكسب غير المشروع
وجد البعض في "تجارة الاعتقال" فرصة جديدة للاحتيال عبر الإنترنت والكسب غير المشروع

دور النظام في عمليات الابتزاز

تكشف مقاطعة العديد من الشهادات مدى الارتباط الوثيق بين تصاعد نشاط خلايا تجارة الاعتقال بمواعيد إصدار النظام السوري مراسيم العفو الرئاسية، إذ تدّعي هذه الشبكات القدرة على تضمين اسم المعتقل في قائمة المشمولين بالعفو، كما توحي للأهالي بقدرتها على منع الإفراج عنه ما لم تدفع الأسرة كذلك.

ورغم غياب هيكلية واضحة لآلية إخراج المعتقلين وكيفية الالتفاف على الأوراق الرسمية، إلا أنّ فريق "عين المكان" استطاع رسم شبكة لأهمّ المناصب المنخرطة فيها، إذ يتبع الوسطاء بأنواعهم المختلفة طرقًا متشابهة لإطلاق سراح معتقلين مقابل المال.

تبدأ هذه الشبكة بالعاملين في الأفرع الأمنية وضباط التحقيق وصولًا إلى رؤساء الأفرع الأمنية وضباط متنفذين في الجيش. كما تمتد لتشمل النظام القضائي، إذ يعتبر المحامون من أبرز المنخرطين في تسهيل عملية الإتجار بالمعتقلين، بينما تتوقف القضية دائمًا على قيام أحد القضاة بتوقيع قرار الإفراج عن المعتقل بعد أخذ حصّته عادة.

شبكة لأهمّ المناصب المنخرطة في عمليات الابتزاز
شبكة لأهمّ المناصب المنخرطة في عمليات الابتزاز

كيف تتوزّع "الحصص"؟

وعلى الرغم من السرية التي تكتنف عمليات التحويل والمبالغ المدفوعة لسماسرة تجارة الاعتقال، إلّا أن دراسة أجراها الباحث سلطان جلبي تُظهر أن ضباط الأمن يحوزون على حصة الأسد بحوالي 40% من المبالغ المدفوعة، يليهم القضاة بنسبة 26%، ويتوزع الباقي بين المسؤولين الأمنيين والسماسرة.

وبحسب الدراسة، فإن متوسط تكلفة إخراج المعتقل من سجون النظام يبلغ 10500 دولار أميركي بينما تتفاوت التكاليف الفعلية من حالة لأخرى بشكل كبير.

وتشير الخطيب إلى أنّ سماح النظام السوري للضباط لديه بابتزاز أهالي المعتقلين ورعاية هذه الشبكات، يأتي من باب الحفاظ على ولاء هؤلاء الضباط، وكمكافأة لهم على الانتهاكات التي يقومون بها.

وأصبحت عمليات الابتزاز مصدر دخل بالنسبة للقضاة والمسؤولين الأمنيين، ولا سيما أن رواتبهم ضئيلة وأصبحت أسماء الكثير منهم على قوائم العقوبات الأوروبية والأميركية، بحسب الخطيب.

ومع توقع الباحثين حصول مئات آلاف عمليات المتاجرة بالمعتقلين وتدفق ملايين الدولارات إلى دورة الأفرع الأمنية المالية، يبرز السؤال: "من هو المسؤول عن استمرار هذه الظاهرة، وإلى أيّ مدى تعمل هذه الشبكات بعيدًا عن أعين المسؤولين في النظام أو تحت رعايتهم؟".


للمزيد عن سماسرة المعتقلات السورية، يكشف تحقيق أعدّه "العربي" ضمن الحلقة المرفقة من برنامج "عين المكان"، الستار عن مأساة ذوي المعتقلين في سوريا، ويقترب من قصصهم في رحلة البحث عن مصير أحبّائهم، والسعي في إنقاذ أرواحهم عبر ما بات يُعرَف في سوريا بـ"تجارة الاعتقال".
حلقة "عين المكان" حول "سماسرة المعتقلات السورية"
المصادر:
العربي
Close