في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، انطلقت عملية "طوفان الأقصى" حيث اخترق فيها الفلسطينيون الجدار الحديدي الذي حاصرهم لسنين في قطاع غزة. ولم يكن الاقتحام الأول لفصائل المقاومة، لكنّه الأكثر عصفًا في تاريخ المواجهة مع المشروع الصهيوني.
فقد نفذ آلاف المقاتلين هجومًا بريًا وعبروا نحو عشرات القواعد العسكرية والمستوطنات الإسرائيلية في قضاء غزة المحتل عام 1948، أو ما يعرف بـ"غلاف غزة". وفي النتيجة قتل ما يزيد عن ألف إسرائيلي بينهم قرابة 370 جنديًا وعنصر أمن، فيما جُلب حوالي 250 أسيرًا ورهينة إلى قطاع غزة.
وفاجئ الاختراق العالم، على الرغم من أنه جاء بعد سلسلة من المناورات العسكرية العلنية والتهديدات التي وجهتها فصائل المقاومة بعد تصاعد الانتهاكات الإسرائيلية، فلماذا أمِن الإسرائيليون جانب المقاومة قبل الطوفان؟ وكيف اخُترق الجدار الحصين بسهولة في صباح السابع من أكتوبر؟ وأين فشلت المنظومة الاستخبارية الإسرائيلية؟
ساعات الطوفان الأولى
في الأيام التالية ليوم عملية "طوفان الأقصى"، سربت مقاطع فيديو وثقها مقاتلو المقاومة بعدساتهم، ومعظمهم استشهدوا أثناء العملية.
وبشأن تفاصيل العملية، فقد تلقى مقاتلو كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، فجر السابع من أكتوبر تعليمات بمهمة جديدة لا يعرف معظمهم تفاصيلها، حيث أمرتهم القيادة بالتوجه إلى الحدود حيث نقاط تجمع محددة.
يلاحظ رئيس "الشاباك" رونين بار تحركات غير عادية على الحدود مع غزة دون أن يعرف طبيعتها ويثور قلقه ويجري اتصالًا جماعيًا مع قادة عسكريين بعد منتصف الليل، ثم اتصالًا آخر فجرًا، ثم يتجه بنفسه إلى الجنوب دون أن يصل إلى شيء.
ورغم التحذيرات، يقرر المسؤولون في الاستخبارات التعامل مع التحركات على أنها تدريبات جديدة للمقاومة.
وفي هذا الإطار، يرى عمر عاشور، أستاذ الدراسات الأمنية في معهد الدوحة، أنه يبدو أنه تم الإعداد لهذه العملية منذ أكثر من عامين، وتم التدريب عليها وعلى تنفيذها وعلى الرصد والاستطلاع والمراقبة.
ويقول في حديث إلى التلفزيون العربي: "إن الوحدة 8200 جمعت المعلومات وجرى تحليلها، وكان التحليل صائبًا بأن حماس تحضّر لشيء"، مشيرًا إلى أن الإسرائيليين "اعتبروا أن هؤلاء (حماس) يعدون لشيء لكن لا توجد لديهم القدرة على تنفيذه وسيتم صدّهم".
غطاء صاروخي يمهد للهجوم البري
وفي الساعة السادسة و25 دقيقة، بدأت المقاومة بإطلاق كثيف للصواريخ تجاه أهداف إسرائيلية، حيث أُطلقت 5500 صاروخ على مدار 20 دقيقة، مستهدفة أهدافًا مختلفة في الأراضي المحتلة.
وفعّلت إسرائيل قبتها الحديدية وأطلقت صفارات الإنذار على نطاق واسع، بدءًا بمستوطنات الغلاف ووصولًا إلى تل أبيب. ثم طارت المسيّرات المجهزة بقذائف الياسين واستهدفت أبراج المراقبة ورشاشات أبصر وأطلق الأتوماتيكية. وكان الهدف إعماء أنظمة الاتصال والإرسال الإسرائيلية والتشويش عليها.
ويلفت الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بلال شلش، إلى أن فيديوهات القسام توضح أنه تم الإعداد للعملية على أكثر من مستوى، ولا سيما السلاح الهندسي الذي استخدم لتفجير السياج ثم الجدار الفاصل، وبعد ذلك الفتحات الإضافية في السياج.
ويقول في حديثه إلى التلفزيون العربي: "كان هدف العملية واضحًا، وهو إنجاز اختراق سريع للجدار، فيما سعت القسام بالتزامن مع ذلك إلى تنفيذ عمليات إعماء".
العبور إلى غلاف غزة
فتحت الصواريخ التي شكّلت غطاء يمهد للهجوم البري، وبعد أقّل من ساعة، كان المقاتلون يخوضون اشتباكات متفرقة على حدود القطاع مع جنود الاحتلال.
وعلى متن دراجاتهم وسياراتهم، وصلوا الحدود وفجّروا أجزاء من العوازل الإسمنتية والسياج الشائك، ليحدثوا ثغرات للعبور.
وعبرت المجموعات الأولى من مقاتلي كتائب عز الدين القسّام، الذراع العسكري لحركة حماس وتبعها مقاتلون من فصائل أخرى، ثم مدنيون من أهالي القطاع.
وعلى وقع الصدمة، لم يُعقد اجتماع هيئة الأركان العامة الإسرائيلية إلّا في الساعة الثامنة، أي أنه طيلة ساعة ونصف لم تعرف القيادة العسكرية في إسرائيل حجم الصفعة.
أكبر مناورة هجومية بأسلحة مشتركة
وبحسب عاشور، "يمكن أن نسمي ما فعلته كتائب القسام في السابع من أكتوبر مناورة هجومية بأسلحة مشتركة متعددة الأبعاد". ويقول: "الهدف الاستراتيجي من العملية غير واضح بالنسبة لي، لكن ما حدث يعد اختراقًا عسكريًا عالي المستوى مقارنة بقوات النخبة النظامية"، حيث نفذوا المراحل الخمس للاختراق وقمعوا الدفاعات الإسرائيلية باستخدام المدفعية الصاروخية، كما عطلوا كاميرات المراقبة."
ويضيف عاشور: "عرفنا مدى كفاءة العمل الاستخباري؛ كانوا يعرفون مواقع الكاميرات وأنواعها".
من جهته، يرى شلش أن العملية عبارة عن هجوم متعدد الطبقات، حيث استهدفت المرحلة الأولى الخط الحدودي، ثم تحرك مقاتلو المقاومة للسيطرة على الطريق العام الرئيسي للوصول إلى القواعد العسكرية.
للمرة الأولى، يخترق الغزيون الحاجز الفاصل الذي عزلهم عن أراضيهم المحتلة منذ نكبة عام 1948 بهذه الكثافة، وهو الحاجز الذي طوّرته إسرائيل على مدى ثلاثة عقود ليصبح أكثر تحصينًا في كل مرة.
بناء جدار الفصل حول قطاع غزة
ويشير شلش إلى وجود صلة دائمة بين الجدار والمشروع الاستعماري الصهيوني، الذي كان يرى أن الجدران هي الحل. فقبل عام 2006، اكتمل بناء الجدار في الضفة الغربية، ونُظر إليه على أنه الحدث الأبرز الذي أنهى العمليات الاستشهادية في الداخل المحتل، بحسب شلش.
وفي عام 2006، كانت عملية "الوهم المتبدد" التي تمثلت بخطف جندي إسرائيلي أول خرق لجدار غزة، عبر نفق. وكانت عملية تحصين الجدار تراكمية، فكلما طوّر الاحتلال الجدران، تطوّر المقاومة آليات لخرق هذه الجدران. ويقول شلش: "لم يكن غريبًا في عام 2023 أن يحدث هذا الخرق للجدار الفاصل".
ففي غزة، أفرطت المنظومة الأمنية الإسرائيلية في اعتمادها على سلاح الجو وعلى الآلة وتقنيات الذكاء الاصطناعي على حساب القوة البشرية.
ففي نهاية عام 2021، وبعد ستة أشهر على انتهاء معركة "سيف القدس" التي قادتها حركة حماس، أكمل الاحتلال بناء النسخة الجديدة من الجدار حول قطاع غزة وصلت كلفته إلى حوالي مليار دولار. تتضمن الحدود منطقة محظورة وخطيرة داخل القطاع يتراوح عرضها من مئة متر إلى كيلومتر واحد.
ويشرح شلش أنه في عام 2014، قامت كتائب القسام بشق طريق يدعى "طريق جكر"، يحيط بقطاع غزة بالكامل ويبعد عن المنطقة الحدودية ما بين 200 و250 مترًا. كانت هذه أولى محاولات كتائب القسام لتقليص المنطقة العازلة. كما تزامنت مسيرات العودة مع تقليص المسافة على الحدود. وفي الفترة نفسها، سعت القسام لبناء سلسلة من أبراج المراقبة، بعضها التصق بالجدار العازل نفسه، كما نفذت القسام محاولات استكشاف أولية للجدار.
جدار حديد ذكي
أمّا الجدار الجديد، فهو حديدي ذكي، حيث يرتفع السياج الفولاذي الشائك لستة أمتار وتعلوه شبكة من الرادارات والكاميرات والرشاشات التي تعمل عن بعد وتطلق النار تلقائيًا على أي متحرك على الحدود.
ويلي السياح جدار خرساني آخر، يمتد امتارًا على الأرض. ويحتوي مجسات للكشف عن حفر الأنفاق التي قد تصل المقاومة بمحيط القطاع. ويمتد الجدار على طول 65 كيلومترًا ويخترق طرفه الشمالي البحر. كما تتخلله أبراج المراقبة على مسافات متقاربة.
وقيل إن كمية الخرسانة التي صُبت في الجدار تكفي لمد طريق يصل إلى بلغاريا، وإذا أُذيب الفولاذ الذي يدعمه، فسيعادل سورًا من الفولاذ يصل إلى أستراليا.
وأقيم حفل لافتتاح الجدار حيث احتفى بيني غانتس وزير الجيش الإسرائيلي حينها بإقامته وقال: "إنه مثال على رؤية المؤسسة الأمنية إبداعها وأنه من المهم التقدم على العدو بخطوة". لكن إبداع المؤسسة الأمنية الإسرائيلية اختُرق بعد عامين فقط.
ومن البحر، اخترقت خمسة زوارق العائق البحري نحو هدفها ومن السماء، هبطت طائرات سرب الصقر الشراعية تحمل كل واحدة منها مقاتلين من القسّام في ثلاثة مواقع عسكرية وهي نتيف هعسراه في أقصى الشمال، على بعد أقل 300 متر من القطاع، وكفار عزة في الشمال الشرقي على بعد 3 كيلومترات وقاعدة رعيم شرقًا على بعد 6 كيلومترات.
المقاومون يسيطرون على مساحة واسعة من غلاف غزة
وفي الساعات الثلاث الأولى، سيطرت المقاومة على مساحة واسعة من غلاف غزة وأحكمت السيطرة على قاعدة تلو الأخرى وهدف تلك الآخر ووصل بعد مقاتليها إلى مسافة أقصاها 24 كيلومترًا. واستمر التقدم والاشتباكات أمام عجز المنظومة الإسرائيلية ونجحت كتائب القسام في تعطيل التنسيق بين وحدات الجيش ولم يفهم الجنود المناوبون حجم ما يجري على الأرض ما سمح للمقاومين باقتحام قواعد عسكرية رغم وجود الجنود فيها.
وفي تمام الساعة 9 و17 دقيقة، أعلنت إسرائيل أعلى درجات الطوارئ العسكرية والأمنية وتعطلت الملاحة في مطار بن غوريون.
وكانت فرقة غزة إحدى أهداف المقاومة الأساسية، وتضم الفرقة اللوائين الشمالي والجنوبي اللذين يتخذان من قاعدة رعيم مقرًا لهما، بالإضافة إلى قواعد عسكرية ومستوطنات أخرى، وظل القتال فيها مستمرًا مع عناصر الحماية لما زاد أحيانًا عن ست ساعات، قبل أن يصل جيش الاحتلال لإسنادها.