نُشرت مرتزقة فاغنر في ساحات معارك عدة شملت إفريقيا الوسطى والشرق الليبي، حيث خاضت تجارب قتال عنيفة، وكانت "سوريا الأسد" هي معبرهم إلى العالم.
وبات اسمها مثار تساؤل كبير عقب تصاعد الحرب الأوكرانية الروسية، ومع وجود تهديدات روسية بإغراق أوكرانيا بمحاربي هذه المجموعة. ولم يكن من باب الصدفة أن توجه إليها اتهامات بمحاولة اغتيال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
في هذه الحلقة من وثائقيات "العربي" يتتبع التلفزيون في تحقيقه قصة مجموعة فاغنر العسكرية ويتساءل عن سر تطورها الكبير بعد ظهورها في سوريا.
ويبحث عن التسهيلات التي قدمها نظام بشار الأسد للمجموعة، وعمّا إذا اقتصرت على الحصانة من المحاسبة على انتهاكاتها في سوريا أم تعدتها لتشمل السماح لها بتجنيد مقاتلين سوريين.
وكان "العربي" قد رصد في تحقيقه حول قاعدة حميميم الجوية، الذي بث ضمن برنامج "شيفرة"، استخدام مطار حميميم العسكري لنقل مئات المرتزقة التابعين لفاغنر إلى ليبيا وإفريقيا وأوكرانيا ودول أخرى.
ومع عودة فاغنر إلى الواجهة عقب الحرب في أوكرانيا، عاد "العربي" لتتبع خيوط هذه القضية وتقصي معلومات جديدة عن حجم عمل "فاغنر" في سوريا.
ما هي فاغنر؟
يشير أليكس كاسيدي، الباحث في المجموعات العسكرية الخاصة، إلى أن مجموعة "فاغنر" تعد كيانًا غامضًا للغاية؛ فلا يوجد مسؤولون رسميون لها ولا أوراق رسمية ولا مقر مسجل رسمي، لذا هي كيان لا يتناسب حقًا مع سياسة الشركات الأمنية والعسكرية.
ويقول: تم نشر المقاتلين الروس والمستشارين العسكريين في سوريا تحت ما يسمى مجموعة فاغنر.
ويعتبر أنه كان جليًا أن روسيا تمكنت من إنشاء موطئ قدم لمصالحها دون التورط بشكل كبير في هذا الصراع، أي التورط فيه رسميًا بقدر انخراطها الحقيقي فيه.
ويردف: تم استخدام عناصر فاغنر في المزيد من المهام الأمنية، فجرى نشرهم لتأمين البنية التحتية الحيوية للنظام السوري، ولتأمين المناطق ذات الأهمية مثل حقول النفط أو البنى التحتية الأخرى المتعلقة بالطاقة، وقد تم استخدامهم أيضًا في العديد من الأجهزة الأمنية المختلفة لحماية المسؤولين السوريين رفيعي المستوى.
علاقة فاغنر بقاعدة حميميم
يلفت رسلان طراد، مؤلف كتاب "الجيوش الروسية الخفية"، إلى أن فاغنر ترتبط بحميميم، وهي القاعدة الرئيسية لروسيا في سوريا.
ويردف: "حميميم تعتمد على فاغنر في الانتشار وجمع المعلومات الاستخبارية على الأرض، لذا فإن القوات الروسية تعمل داخل القاعدة بينما تعمل فاغنر خارجها".
ويشير إلى أن الضباط العاملين بصفة مسؤولين أو ممثلين للاتحاد الروسي للتنسيق مع النظام في دمشق هم أيضًا يعملون ضباطًا في فاغنر.
إلى ذلك، يوضح طراد أن فاغنر لا تعمل بالطرق القانونية ولا تتحرك وفق قواعد محددة، مشيرًا إلى أنّ الأخيرة هي عبارة عن ما يتم تقريره داخل أجهزة الأمن فقط وليست للناس العاديين، وبالتالي يمكن لفاغنر تبرير أي شيء تفعله.
ويعتبر أن فاغنر تحولت في سوريا من شركة حراسة سرية إلى قوة عسكرية. فقبل سوريا كان يتم استخدامها للاستخبارات وحراسة البنية التحتية، لكن في سوريا أصبحت قوة عسكرية.
ويردف: "لم يكن هذا هدف القيادة الروسية في البداية، لكنهم استخدموهم بعد ذلك لأنهم رأوا مدى نجاح فاغنر كقوة عسكرية، وبعد سوريا وكل الدروس المستفادة فيها، بدأوا استخدام النموذج نفسه في إفريقيا".
تعمل إيفا كاهان، محللة في مركز الدراسات الدفاعية المتقدمة C4ADS، وفق ما تقول في منظمة غير ربحية مقرها واشنطن وتركز على تتبع الشبكات غير المشروعة.
وتوضح أن مما استطاع المركز اكتشافه هو أن "فاغنر تستخدم الطائرات نفسها بشكل متكرر لنقل المواد اللوجيستية والأشخاص بين مناطق عملياتها المختلفة".
وتضيف: لقد رأينا وحدات مجموعة فاغنر تدرّب وتدعم الوحدات التقليدية السورية على الأرض.
وتزيد القول: رأينا بالإضافة إلى ذلك، وحدات مجموعة فاغنر تنفذ مهامًا محددة لصالح الحكومة الروسية أو الشركات الروسية، بما في ذلك حماية حقول النفط والبنية التحتية الحيوية.
"القشة التي تعلق بها بشار الأسد"
لم تنجح ضربات روسيا الجوية العسكرية بعد دخولها على خط الصراع في سوريا في كبح جماح الثوار، فكان لا بد للروس من البحث عن طرق أخرى للسيطرة على الأرض، دون الدفع بالجنود الروس النظاميين إلى ساحات المعارك. وكان الحل شركة "فاغنر".
بدوره، يشير اللواء إيغور غوسكوف، رئيس أركان جهاز الاستخباراتي الأوكراني السابق إلى أن "فاغنر وحدة غير نظامية مكونة من أشخاص تابعين لسيطرة وأنظمة المخابرات العسكرية الروسية الكاملة، وخاضعون لهيكل إداري مناسب كذلك".
ويلفت إلى أن هذه المجموعة أصبحت القشة التي تعلق بها بشار الأسد، وبمساعدتها أخرجه بوتين من الهاوية التي كان قد سقط فيها بالفعل.
ويشير إلى أن "الأسد كان قد رشح لزملائه روسيا الاتحادية، التي قدمت نفسها كدولة تحمي القادة المستبدين من انتقام شعوبهم".
ويبين أن هؤلاء هم ضباط متقاعدون، أعضاء في الجيش الروسي، تم توظيفهم للقتل ضمن عقد مبرم على أعلى المستويات بين حكومة روسيا الاتحادية والدولة الأخرى.
ويقول: كان لدى فاغنر سرية استطلاع و4 سرايا استطلاع بالقوة وسرية دبابات وسرية مدرعات مقاتلة ومجموعة ناقلات جنود مصفحة ومجموعة مدفعية مدمجة شملت مدافع ذاتية الحركة وأنظمة إطلاق صواريخ متعددة.
ويسأل: في أي شركة عسكرية خاصة في العالم يمكن أن تجد منظومات "غراد" مثلًا؟ وأي شركة عسكرية خاصة تمتلك الدبابات؟، لافتًا إلى أن الشركات العسكرية الخاصة الأكثر تقدمًا في العالم لا تمتلك قطعًا مدفعية خطيرة كهذه في ترسانة أسلحتها.
فاغنر.. لمَ المرتزقة؟
من جانبه، يلفت المستشار العسكري في وزارة الدفاع الأميركية "البنتاغون" شون ماكفيت، إلى أن الشعب الروسي لا يعجبه أن يرى الجنود الروس عائدين في أكياس الجثث، لكنه لن يأبه إن كان القتلى من المرتزقة.
وبينما يذكر بأن هؤلاء المرتزقة كانوا في غاية القسوة، يشير إلى أنه في حال تم القبض عليهم لارتكابهم جرائم حرب، فستتمكن روسيا التنصل منهم، ولن تضطر للدفاع عنهم كما لو كانوا جنودها النظاميين.
ويلفت إلى أن مجموعة فاغنر حصلت غالبًا على معلومات استخباراتية من الحكومة الروسية، لافتًا إلى أن بريغوجين الذي يمتلك مجموعة فاغنر هو نفسه مالك وكالة أبحاث لإنشاء الحسابات الوهمية والتصيد الاحتيالي عبر الإنترنت، ويمتلك الكثير من شركات النفط والغاز والمعادن.
وكانت فاغنر قد تطورت سريعًا حتى أصبحت أداة إستراتيجية في سياسة روسيا الخارجية. وبيّنت تسريبات لسجل مكالمات بريغوجين نشرت عام 2020، علاقته فوق العادية بدائرة الرئيس الروسي بوتين المقربة، وفسرت النفوذ الذي بات يحظى به.
إذ رصد تواصله مع مدير مكتب بوتين 144 مرة، ومع كبير موظفي الكرملين 99 مرة، بينما تواصل مع نائب وزير الدفاع 54 مرة وتحدث مع مستشار بوتين للسياسة الخارجية وسفيره في أميركا 3 مرات.
واستغل بريغوجين هذا النفوذ لبناء جيش من المرتزقة في قاعدة بإقليم كاراسنودار قرب الحدود الروسية الأوكرانية.
في هذا الصدد، يلفت عمر عاشور، أستاذ الدراسات الأمنية والإستراتيجية في معهد الدوحة للدراسات العليا، إلى أنهم يبحثون دائمًا عمّن له خلفية عسكرية ولديه بعض الخبرة، ويتم تدريبهم في معسكر كاراسنودار التابع لوزارة الدفاع الروسية.
وعاشور الذي يرى أن فاغنر ربما تعتبر من أهم الفاعلين المسلحين في سوريا، واشتركت في ما لا يقل عن 9 من أصل 14 محافظة سورية.
يفيد في المقابل، بأن خسائر الشركة في سوريا هي الأكبر، قبل الحرب الأوكرانية الحالية من حيث عدد القتلى.
ويضيف: المثبت أنهم اشتركوا في سوريا في حراسة حقول نفط والهجوم على أخرى، وفي معارك لاستعادة مدن أو بلدات أو أحياء على كل المستويات، واشتركوا في التدريب والعمل الاستخباري، وإعطاء إحداثيات للطيران والمدفعية.
ويردف: "هل اشتركوا في تجنيد سوريين وإرسالهم إلى أوكرانيا، من المحتمل. ومن المحتمل أيضًا أن يكونوا اشتركوا في تدريب سوريين وإرسالهم إلى ليبيا أيضًا. هذا وارد للغاية".
أين تتمركز فاغنر في سوريا؟
تطورت "فاغنر" بخطى متسارعة في الأراضي السورية وزاد عدد منتسبيها بشكل لافت. وخلال بحثه، وصل "العربي" إلى قوائم لأكثر من 4100 مجند لفاغنر، جلهم يحملون الجنسية الروسية ووصلوا إلى سوريا مبكرًا.
كما تكشف هذه القوائم عن حجم انتشار المقاتلين في المدن والمحافظات السورية. فبحث في مواقع هذا الانتشار لمحاولة رسم صورة عن كثافة الوجود والإستراتيجية التي اتبعوها على الأرض.
و"العربي" حصل من خلال مصدر خاص في المخابرت السورية على معلومات تكشف عن مقرات ومواقع انتشار فاغنر في سوريا.
وحاول التحقق من صحة هذه المعلومات من خلال مقاطعتها مع مصادر محلية ميدانية، ومن خلال تحليل هذه المعلومات، وصل إلى أن قوات فاغنر تتمركز بالقرب من المدن وحول حقول النفط الإستراتيجية بهدف ضمان انسياب النفط لتشغيل آليات النظام القتالية والتأكد من وصول موارده المالية إلى جيب النظام.
وتشير كاهان، إلى أنه تم رصد قوات فاغنر تعمل في جميع أنحاء المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، متحدثة عن شائعات عن عمل قوات فاغنر في مناطق ذات كثافة سكانية أقل، ولا سيما في الصحراء وسط سوريا.
وتردف: "هناك ملاحظات عن عمل قوات فاغنر جنبًا إلى جنب مع الوحدات السورية في مناطق التمركز السكاني الرئيسية وفي القواعد العسكرية السورية الكبيرة".
وتنفي بقدر علمها "وجود قاعدة ثابتة لفاغنر في سوريا، ولا مركز عمليات منفصل عن مكاتب ارتباط القوات الروسية العاملة في سوريا أو القوات المساندة هناك".
السوريون واجهة القتال؟
إلى ذلك، حظيت فاغنر بمواقع إستراتيجية وموارد اقتصادية مالية كبيرة في ظل حكم النظام السوري مثلت منعطفًا مهمًا وتجربة استثنائية في طريقها إلى العالمية، وساهمت بشكل كبير جدًا في توسيع نشاطها وزيادة أعداد مقاتليها من خلال فتح باب الانتساب إلى فاغنر للسوريين والسماح لهم بالعمل معها.
وأثار هذا الباب من خلال فتحه العديد من التساؤلات، أهمها هل بات السوريون اليوم واجهة القتال المتقدمة لفاغنر؟
يلفت الباحث الأمني والمحلل السياسي شون مايكل كوكس، إلى وجود عدة أسباب محتملة لتجنيد غير الروس في مجموعة فاغنر، الأول هو استخدام مقاتلين ذوي خبرة، فكما هو واضح هناك الكثير من الصراعات في الشرق الأوسط منذ عقود، وهناك العديد من الأشخاص الذين لديهم خبرة في حالات الحرب في ميادين الصراع كمقاتلين.
ويشير إلى أن "فاغنر كشركة عسكرية خاصة تقدر الخبرة، التي يمكن أن يجذبها هؤلاء الأشخاص إليها".
ويتحدث عن سبب ثان هو إضافة طبقة أخرى من الغموض حول أنشطة مجموعة فاغنر، باعتبار أنها كانت تاريخيًا من الروس.
ويعتبر أن "أكبر فائدة من التدخل في سوريا هي الخبرة على الأرض؛ خبرة العمل في منطقة معادية، وفرصة تجربة تكتيكات مختلفة لزعزعة استقرار الجماعات المعارضة"، مذكّرًا بأن مجموعة فاغنر ترتبط ارتباطًا وثيقًا بنظام الأسد، الذي يستخدمها بشكل فعّال للغاية.
وعلى مستوى المنافع، يقول ماكفيت إن الحكومة السورية وعدت بريغوجين بنوع من حقوق التنقيب أو تقاسم الأرباح حال اكتشاف نفط أو غاز جديدين أو عند إعادة السيطرة على منشآت النفط والغاز شرقي سوريا.
ويبيّن أن المجموعة كانت تذهب إلى مواقع النفط والغاز تلك فتقتل كل عناصر "داعش" هناك، وتؤمن هذه المواقع ثم يكون من الممكن للحكومة السورية وبريغوجين استخراج الغاز الطبيعي أو غيره وتشارك الأرباح.
ويخلص إلى القول: "كان هناك جانب تجاري إلى جانب شن الحرب، حرب من أجل المصالح الخاصة في حقيقتها".
شهادة مقاتل سابق
حصل "العربي" على السجل الرسمي الخاص بالموافقات الأمنية للمنتسبين السوريين إلى فاغنر، وهي مرحلة لاحقة لفرز طالبي التطوع للقتال معها. وما يثير الدهشة في هذه السجلات هو ارتفاع أعداد المنتسبين، حيث قدرنا الأعداد بأكثر من 15 ألف اسم.
وبالعودة إلى تلك السجلات تتبع "العربي" إجراءات التجنيد، فبان أن المرتزق يذهب لكتابة طلب تطوع من خلال أحد ضباط الارتباط التابعين لفاغنر، ثم تُرسل قوائم المتطوعين إلى فروع الأمن لدراستها أمنيًا وإصدار تقرير أمني حول من وردت أسماؤهم فيها.
من يحصل على الموافقة الأمنية ينقل للتجنيد والتدريب، ومن ثم إلى مركز عمله الجديد. وتقوم الفروع الأمنية السورية بإصدار إخطارات تخص خطط التعبئة والتدريب لهؤلاء المقاتلين.
ويقول أبو وليد، وهو مقاتل سوري في فاغنر سابقًا: إن صديقًا دعاه إلى الانضمام لفاغنر، فاستحصل على الموافقات الأمنية.
ويعرب عن اعتقاده بأن فرع الأمن العسكري هو المسؤول عن هذه الموافقات، ما يتيح للراغب بالانضمام إلى المجموعة متابعة الاستمارة. ويشرح أن العقد كان عبارة عن 10 صفحات أو أكثر، نسخة بالروسية وأخرى بالعربية.
ويفيد بأن الجداول التي تزامن تقديمها مع تقدمه للانضمام إلى فاغنر ضمت فوق 15 ألف متطوع موافق على أسمائهم.
ويتحدث عن نظام كتائب لتقسيم المتطوعين، حيث تشمل كل كتيبة بين 300 إلى 320 شخصًا، لها نظامها ومدربها ومهمتها الخاصين.
أي دور لعبه عامل المال لتشجيع سوريين على التطوع للقتال في صفوف مجموعة فاغنر، وأي دور تحظى به هذه المجموعة لدى النظام السوري؟ الإجابات ومعلومات إضافية عن فاغنر في الحلقة المرفقة من وثائقيات العربي.