عقب الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، أصدر المبعوث الأميركي بول بريمر قرارًا بحل الجيش العراقي وإلغاء التجنيد الإلزامي وتأسيس جيش آخر بعقيدة قتالية جديدة تعتمد على نظام التطوّع العسكري.
لكن هذا الجيش سرعان ما انغرست أقدامه في مستنقع المحاصصة الطائفية والحزبية التي سيطرت على البلاد، وأسهمت في إضعافه قبل أن تأتي اللحظة الفارقة والتي تمثّلت بسقوط الموصل عام 2014 بأيدي تنظيم الدولة، ليبتلع ثلث أراضي العراق.
وفي ظل ذلك، حاولت حكومات العراق المتعاقبة تقديم مقترح لإعادة بناء جيش عراقي جديد من خلال تقديم قوانين للتجنيد الإلزامي خلال عامي 2012 و2016، إلّا أنه لم يناقش في البرلمان، ليعود إلى الواجهة بعد إعلان حكومة رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي موافقته على مشروع "خدمة العلم" في أواخر عام 2021.
مطلب وطني
يشير الباحث والسياسي العراقي صباح ياسين إلى أن التجنيد الإجباري بدأ عام 1927 منذ تأسيس الدولة العراقية، لافتًا إلى أن "هذا المطلب الوطني له دوافع كثيرة".
ويؤكد ياسين أن الجيش العراقي لم يتأسس على أساس مناطقي بل من متطوعين من مختلف أنحاء البلاد، متجاوزًا كل العناوين المناطقية.
ويوضح وزير الدفاع العراقي الأسبق خالد العبيدي المسببات الرئيسية لإقرار القانون، واصفًا إياه "بالضرورة الوطنية القصوى"، مشيرًا إلى أن "المكلّف بالخدمة الإجبارية، يمكن أن يأتي من الشمال والجنوب ويلتقي في مراكز التدريب مع أبناء وطنه، وبالتالي يُكسر الحاجز الطائفي ولو بنسبة قليلة بين الشباب".
وتشير مسودة القانون التي قُدمت لمجلس النواب لمناقشتها إلى أنه "يجب على كل عراقي أكمل الـ18 من عمره ولم يتجاوز الـ45 خدمة الجيش العراقي، في مدة تختلف وفق التحصيل العلمي، على ألا تتجاوز الـ18 شهرًا".
جدل الحاجة للجيش
ويقول رئيس حزب المشروع الوطني العراقي جمال الضاري: "إن طبيعة الشعب العراقي تستدعي وجود نظام عسكري يخدم البلد من عدة نواح، أولها الحاجة إلى جيش قوي للدفاع عنه، وهذا الأمر لا يتم إلّا من خلال التجنيد الإجباري".
كما يوفر التجنيد الإلزامي على العراق مشقة توحيد العراقيين وصهرهم في مجتمع واحدة، بحسب الضاري.
لكن حديثه لم يكن متوافقًا مع رؤية الكثيرين من أعضاء المجلس النيابي العراقي الحالي. ففي تغريدة له، طالب النائب بشار الكيكي بتعزير الحياة المدنية للمواطنين الشباب بدلًا من فرض التجنيد الإجباري عليهم.
أمّا النائب في الحزب الديمقراطي الكردستاني ماجد الشنكال، فاعتبر أن القانون يهدف إلى عسكرة المجتمع وإلهاء الشباب عن ملفات البطالة والفساد.
ويقول العضو السابق في لجنة الأمن والدفاع النيابية حامد المطلك: "هناك من يرى أن التجنيد الإجباري واجب ومفيد وهناك من يرى عكس ذلك تحت ذريعة أن مصاريف الدولة ستزيد بسبب الحاجة لبناء مراكز تدريب وغيرها، وبالتالي سيزيد الفساد الإداري والمالي".
معارضة الحشد الشعبي
ويشرح الضاري أن التقسيمة السياسية في البلد تخضع للمنهاج نفسه الذي وضعه الأميركيون للعمل السياسي في العراق، حيث قسموا الشعب إلى سنة وشيعة وأكراد.
ويلفت الضاري إلى "أن الأكراد يعتبرون أن لديهم قوات البيشمركة التي قد تغنيهم عن الجيش الشامل، فيما يعتقد الشيعة أن وجود الحشد الشعبي قد يكون بديلًا عن الجيش العراقي، فيما لا يملك السنة أي قوة تمثلهم".
ويضيف: "نحن لا ندعم أي قوات على أساس طائفي أو عرقي في العراق"، معتبرًا أن مؤيد الوحدة في العراق يساند فكرة التجنيد الإجباري.
ويشير الباحث والسياسي صباح ياسين إلى أن الجهة التي تعارض تشكيل جيش عراقي هي الحشد الشعبي.
وفي بغداد، قابل فريق "العربي" النائب حسين العامري، عضو لجنة الأمن والدفاع النيابية والقريب من الإطار التنسيقي الشيعي المكون الأكبر للبرلمان العراقي الحالي.
وحول تأثير وجود تشكيلات مسلحة على وحدة الجيش العراقي وتشريع قانون التجنيد الإجباري، يقول العامري: "إن هذا الطرح غير موجود باعتبار أن الفصائل المسلحة الموجودة منضبطة".
ويؤكد العامري مدى فعالية فصائل الحشد الشعبي في إقرار قانون التجنيد بما يتلاءم مع توجهات المجتمع العراقي ولا سيما الشباب.
البطالة تعصف بالشباب
لكن أحمد مثني وهو شاب عراقي يواجه كغيره من الشباب البطالة والأزمات الاقتصادية التي تعصف بالبلاد، يرى أن خطوة إقرار التجنيد الإجباري غير سليمة.
ويقول: "لا يمكن أن تأخذ الشاب من عمله إلى الجيش"، في ظل الأزمات المعيشية، ويستبعد إمكانية أخذ ابن نائب أو مسؤول إلى الخدمة.
وتشير آخر إحصائية لوزارة التخطيط العراقية إلى أن نسبة البطالة في العراق ارتفعت إلى ما يزيد عن 16%، أي أن واحدًا من أصل 5 شباب هم عاطلون عن العمل.
لكن العامري يرى أن التجنيد سيقضي على جزء من البطالة ويمنع الشباب من التوجه إلى أماكن أخرى قد لا تكون في صالحهم.
في المقابل، يجد وزير الدفاع العراقي الأسبق خالد العبيدي أن عسكرة المجتمع لا يمكن أن تقضي على البطالة، بل يجب إقامة مشاريع استثمارية لاحتواء هؤلاء الشباب.
زيادة ميزانية الجيش
وعلى الرغم من الأزمة الاقتصادية التي يمرّ بها العراق، إلا أن الميزانية التي تقدمت بها الحكومة في عام 2021 شهدت زيادة في الأموال المخصصة للجيش العراقي، لتبلغ ما يقارب 6,5 مليارات دولار أميركي، مما أثار حفيظة الكثير من الحركات السياسية والشعبية المعارضة، في ظل الخوف من تكرار قضايا الفساد التي ضربت الأجهزة الأمنية في فترات سابقة.
وكان من هؤلاء المتحفظين قاضي النزاهة الأسبق رحيم العكيلي والذي طالب في تدوينة له بتوقيف تشريع قانون التجنيد الإجباري وإيقاف "مهزلة عسكرة المجتمع"، ما سيسبب زيادة أعباء الدولة المالية وفتح أبواب جديدة للفساد.
وهذا التباين في الآراء بين مختلف التيارات السياسية العراقية حول مشروع قانون التجنيد الإجباري يخفي في كواليسه خلافًا واضحًا في مواقف الأطراف السياسية على معظم القضايا العالقة في البلاد، مما يجعل الشباب العراقي يعيش تحت وطأة ضغوط إضافية تمنعه من تحقيق طموحه بحياة أكثر استقرارًا.
هواجس الشباب العراقي
ويعبّر الشاب العراقي أوس دريد عن مخاوفه التي يتشاركها مع الشباب العراقي من أن يتم إقرار قانون التجنيد الإجباري لدوافع سياسية بحتة وليس لدوافع وطنية، ويقول: "سنكون أنا وبقية الشباب محرقة لحروب عبثية لا فائدة منها".
أمّا الشاب العراقي طه حيدر عبيدي الذي اضطر لترك دراسته للعمل في مقهى شعبي، فيشير إلى أن الظروف المعيشية جعلت الشباب يلجؤون إلى المخدرات وغيرها من الأعمال، مؤكدًا أن الحل لا يكمن في التجنيد الإجباري الذي ينفر الشباب الذي عاش حروبًا في العراق.
من جهته، يلفت العضو السابق في لجنة الأمن والدفاع النيابية حامد المطلك إلى أن الحكومات العراقية المتعاقبة لا تمتلك القرار السياسي الوطني الجامع.
وجاء إعلان رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني سحب مشروع قانون التجنيد الإجباري من البرلمان بعد إخفاق المجلس في مناقشته.
ووسط تعاظم الجدل في الأوساط الشعبية والعراقية حول قانون التجنيد الإجباري بين مؤيد يرى من خلال القانون فرصة لإعادة هيبة الجيش العراقي وحماية المجتمع من التناحر الطائفي، ومعارض يعتبر أن تشريعه يمثل عسكرة للمجتمع العراقي وهدرًا للموارد الاقتصادية، فإن الوضع الاقتصادي يبقى الشاغل الأكبر للشباب في ظل غياب الحلول الفعلية التي تساعد الشباب على إيجاد فرص عمل تلبي احتياجاتهم.