في 2 سبتمبر/ أيلول عام 1945، انتهت الحرب العالمية الثانية، التي خلفت وراءها عشرات الملايين من الضحايا والمصابين. وكان لفوز الحلفاء تأثير كبير على السياسة العالمية بعدما انحسر نفوذ القوى الأوروبية، فظهرت على الساحة الدولية قوتان عظيمتان هما الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، وهو ما مهد لحرب جديدة بين القطبين الجديدين وهي حرب النفوذ أو كما يطلق عليها "الحرب الباردة".
كانت حرب عام 1967 أحد ملفات الصراع بين القوتين، فقد اختارت الولايات المتحدة الانحياز إلى إسرائيل وهو ما دفع السوفييت لأن يكونوا جزءًا من المشهد. وبعد أقل من شهر ونصف على اندلاع الحرب، وتحديدًا يوم 21 من يونيو/ حزيران 1967، وصل إلى القاهرة الرئيس السوفييتي نيكولاي بودجورني يرافقه وفد عسكري كبير برئاسة المارشال زاخاروف لإظهار الدعم السياسي وبحث المطالب الخاصة بإعادة بناء الجيش.
بين حربي 1967 - 1973، كان للاتحاد السوفييتي دور كبير في دعم الجبهة المصرية، لكن تفاصيل ما حدث في تلك الفترة وما دار في الكواليس بين مصر والاتحاد السوفييتي لم تأخذ نصيبها من التوثيق إلا في شهادات قادة الحرب المصريين، لكن الشهادة الأبرز كانت للخبراء السوفييت الذين عملوا مع المصرين حتى قرار السادات بترحيلهم عام 1972.
ويقول أندريه باكلانوف، الدبلوماسي السابق في سفارة الاتحاد السوفييتي في مصر، إنه نهاية يونيو/حزيران 1967 وبتوجيه من قيادة في الاتحاد السوفييتي سافرت مجموعة من الشخصيات العسكرية والسياسية إلى مصر عقب هزيمة يونيو، وكان الرئيس بودجورني على رأس الوفد مع وزير الدفاع حينها.
ويضيف أن مصر اختارت الجيش السوفييتي؛ لأنه الأكثر خبرة الذي يستطيع أن يساعد الجيش المصري في تحديد أسباب ما حدث في تلك الحرب ومعالجة ذلك ومساعدته على تجاوز ما حدث عام 1967. ويلفت إلى أن بودجورني سافر إلى مصر وقضى فيها وقتًا طويلًا لتقديم الدعم السياسي والعسكري، لأنّ مصر كانت تعتبر دولة مهمّة للاتحاد السوفييتي.
ويرى جمال زهران، أستاذ العلوم السياسية في جامعة قناة السويس، أن العلاقة الوثيقة جدًا بين مصر والكتلة الشرقية كانت جزءًا من عملية الاستقلال والبعد عن الاستعمار الغربي، وبعدما رفض الغرب الاستعماري أن يزود الجيش المصري بالأسلحة ويساهم في إعادة بنائه، عمد عبد الناصر إلى عقد صفقة عسكرية مع تشيكوسلوفاكيا وسماها صفقة الأسلحة التشيكية عام 1955 والتي كانت بداية الانفتاح على الاتحاد السوفييتي.
"الخيط الأول للتعاون العسكري"
قبل أيام من حرب عام 1967، وتحديدًا في 22 مايو/ أيار، استقبلت موسكو وفدًا عسكريًا سياسيًا برئاسة شمس بدران وزير الحربية، حيث التقى بوزير الدفاع السوفييتي، في زيارة كانت كانت الخيط الأول للتعاون العسكري، لدرجة أن بدران كان يقول إن السوفييت سوف يحاربون مع مصر، وأنّ الأسطول السوفييتي سيدمّر الأسطول السادس الأميركي.
لكنّ مراد غالب سفير مصر في الاتحاد السوفييتي قال في روايته عن هذه الزيارة: "جاء شمس بدران إلى الاتحاد السوفييتي قبل حرب 1967 بعشرة أيام ليعرض على الزعماء السوفييت الحالة المتوترة للغاية في المنطقة التي كانت تنذر بحرب شاملة ومدمّرة. كان شمس يقضي وقته بين المباحثات مع السوفييت وبين شراء أثاث لبيته المزمع بناؤه في عمارة تطل على النيل".
كانت حرب عام 1967 وما تلاها من أحداث، خصوصًا بعد تقديم أميركا دعمًا لإسرائيل، هو الأمر الذي دفع السوفييت لأن يكونوا حاضرين في المشهد منذ الأيام الأولى للحرب.
يقول وزير الخارجية المصرية محمود رياض وقتها، في مذكراته، إن الدعم السوفييتي لمصر مهد لمباحثات بين الطرفين، بدأت في 27 يونيو/ حزيران عام 1967، وفي هذا الاجتماع طلب عبد الناصر بشكل واضح أن يدعم الاتحاد السوفييتي مصر بطائرات حربية، حيث كان يطمح إلى اتفاقية دفاع مشترك بين الاتحاد ومصر، لكن القادة السوفييت كانوا مع أن يقتصر الدعم على الأسلحة والمعدات فقط.
ويقول باكلانوف في هذا السياق: "كان ما يتصوّره المصريون هو أننا ندعمهم فقط بسبب حالة الصراع السياسي المستمر بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، وهذا جزء من الحقيقة، لكنّ سبب الدعم في الأصل كان الهدف منه أن تكون مصر جسرًا لتوسيع نفوذ الاتحاد السوفييتي في المنطقة العربية وفي القارة الإفريقية".
لكنّ باكلانوف يشير في الوقت نفسه إلى أنّ الاتحاد السوفييتي لم يكن راغبًا في مواجهة الولايات المتحدة بسبب دعمها الواضح لإسرائيل، "ولذلك فقد حاولنا طوال الوقت التفاوض مع الأميركيين على خطة للتغلّب على الأزمة".
"حرب الاستنزاف" بين عبد الناصر وإسرائيل
حاول عبد الناصر ألا يترك الساحة لإسرائيل، فبدأت حرب الاستنزاف، التي واجهتها إسرائيل بعنف شديد، لدرجة أن الطائرات الإسرائيلية كانت تقصف الأهداف المدنية في عمق الدولة المصرية، في وقت كانت قدرات الجيش المصري محدودة، الأمر الذي دفع عبد الناصر للسفر إلى الاتحاد السوفييتي في يناير/ كانون الثاني 1970 لطلب التزود بالأسلحة ومعدات دفاع جوي وطائرات أكثر تقدمًا.
في مذكراته "حرب السنوات الثلاث"، يستعرض الفريق أول محمد فوزي الذي رافق عبد الناصر في تلك الزيارة، ما حدث وقتها، فيقول: "تعمد عبد الناصر تصعيد الموقف لدرجة أنه هدد القادة السوفييت بترك الحكم إلى زكريا محي الدين والذي يمكنه التفاهم مع الولايات المتحدة، وطلب من السوفييت وحدات كاملة من الصواريخ بأفرادها السوفييت وأسراب كاملة من طائرات الميغ 21 المعدلة بطيارين سوفييت، وبرر عبد الناصر ذلك بأن تدريب الأطقم المصرية والطيارين المصريين سيستغرق وقتًا طويلًا".
وفي شهادة الساسة السوفييت عمّا حدث في هذا الاجتماع، يحكي السفير السوفييتي في القاهرة فلاديمير فينوغرادوف أنّ هذا الطلب مثّل مفاجأة كبيرة بالنسبة لهم، لكنّ عبد الناصر كان مصممًا على طلبه، وبعد مناقشات طويلة أعلن رئيس الاتحاد السوفييتي ليونيد إيلييتش بريجنيف في 25 يناير 1970 موافقة القيادة السوفييتية على طلب الرئيس عبد الناصر، وأنها هذه هي المرة الأولى التي يخرج فيها جندي سوفييتي إلى دولة صديقة منذ الحرب العالمية الثانية.
ويقول: "كان يجب أن تصل أول فرقة من الجيش الروسي سرًا إلى مصر، وتحتل مواقعها القتالية المحددة، وكانت فرقة دفاع جوي مهمّتها توفير الحماية لأهم مراكز مصر وهي القاهرة والاسكندرية وأسوان. ومقابل ذلك كان على الجانب المصري، توفير بناء المنشآت لإيواء مجموعة الصواريخ المضادة للطائرات ومخابئ ومساكن الأفراد السوفييت وتوفير الحماية لهم".
وتعليقًا على ذلك، يقول باكلانوف: "أنا أعلم جيّدًا كيف تمّت تلك العملية لأنني كنت مساعدًا للسفير السوفييتي في القاهرة وقتها. عندما وصلنا إلى عام 1969، زادت ضربات الطيران الإسرائيلي على الأهداف المدنية المصرية، وكان ذلك بسبب حرب الاستنزاف المحدودة. كان الطيران الإسرائيلي يفعل ما يشاء في السماء المصرية".
ويضيف: "قام عبد الناصر بزيارة سرية إلى موسكو في نهايات عام 1969 ليطلب دعم الاتحاد السوفييتي بمضادات صواريخ ووحدات دفاع جوية، وطلب أيضًا أن يرسل الاتحاد السوفييتي وحدات كاملة للدفاع الجوي. وكانت المفاوضات صعبة وشاقة، لكنّ عبد الناصر كان مصرًا على موقفه، ووصلت أول فرقة دفاع جوي إلى مصر في يناير عام 1970".
"المهمّة الصعبة"
في شهادته، يتحدّث السفير السوفييتي في القاهرة فلاديمير فينوغرادوف عمّا أسماه "المهمّة الصعبة"، والتي تمثّلت في إقناع عبد الناصر بإنهاء حرب الاستنزاف، فقد كان الروس يعتقدون أنّ على مصر إيقاف هذه الحرب حتى يتمكن السوفييت من تدريب وتطوير الجيش المصري، لكنّ الصعوبة كانت في إقناع عبد الناصر بذلك.
يقول فينوغرادوف: "استقبلني عبد الناصر بترحاب جديد. طرحت عليه سؤالًا حول الهدف الأساسي لسياسة مصر تجاه إسرائيل، هل هو وقف إطلاق النار، أم الصلح، أم السلام والتعايش معًا. وقد حاول عبد الناصر الرد محاولًا تصوير أنّ الأزمة بين العرب وإسرائيل هي في واقع الأمر أزمة بين السوفييت والأميركيين".
ويضيف: "رفضت هذه الفكرة تمامًا، وقلت له إنه بالرغم من إرسالنا فرقة الدفاع الجوي إلى مصر فإن هذا لا يعني أننا ننوي الدخول في حرب مع الولايات المتحدة وإسرائيل. ضحك عبد الناصر مشيرًا إلى أنّه لم يعارضه أحد بهذا الشكل، ثمّ قال نبرة حادة (أنكم يمكن أن تنطلقوا من أن مصر تريد أن تعيش في سلام مع إسرائيل. إذا احترمت إسرائيل حقوق العرب القانونية فأنا رجل سلام)".
ويتابع: "بذلك فقد قمت بالتكليف المطلوب منّي بما يزيد على المتوقع وتوقفت حرب الاستنزاف بعد زمن وجيز".
من جهته، يقول باكلانوف عن هذه المرحلة: "كان الهدف هو أن تتوقف حرب الاستنزاف. كان المصريون يحاولون من خلال هذه الحرب أن يرسلوا رسالة مفادها أنهم لن يستسلموا. لكنّ هذه الحرب المحدودة كانت نتائجها لا تحتمل من حيث الخسائر البشرية والمعدات. لذلك فقد حاولنا إيقاف هذه الحرب حتى تتمكن قواتنا من العمل بهدوء في بناء منظومة صواريخ الدفاع الجوي. كان من الصعب علينا أن نعمل في ظلّ هذا الوضع الملتهب".
أول فرقة دفاع جوي تصل إلى مصر
شعر عبد الناصر أنّ خطوته الأولى قد تمّت بنجاح. وكان على مصر أن تبدأ في بناء المواقع قبل وصول فرقة الدفاع الجوية السوفييتية، لكنّ هذه المواقع كانت تتعرض للقصف المستمر من قبل الطيران الإسرائيلي.
وبينما كان الجانب المصري يحاول إكمال مهمّته ببناء المواقع، كانت السفن السوفييتية في طريقها إلى ميناء الإسكندرية.
يقول قائد أول وحدة دفاع جوي تصل إلى مصر في شهادته: "لقد تمت عملية نقل القوات بحرًا بسرية تامة. لقد تطلبت هذه العملية تماسكًا نفسيًا ومعنويًا كبيرًا، فلقد تمّت عملية إنزال المعدّات في الميناء والسير بها في أماكن غير معروفة لنا في ظلام تام بنجاح تام".
ويضيف: "لقد وصلنا إلى الأماكن المحدّدة بعد جهد كبير، وكان العدو يقوم بعملية تجسس جوي نشطة، ولكن في الأغلب لم تكن الطائرات الإسرائيلية في مرمى صواريخنا، وهو ما جعلنا نفكّر في تكتيك جديد بإطلاق الصواريخ في عمق منطقة مرماها، وقد نجح هذا التكتيك في إسقاط أول طائرة فانتوم في 30 يونيو/ حزيران 1970".
وكانت فرقة الدفاع الجوي قد جاءت آنذاك بتعليمات واضحة من القيادة السوفييتية باعتبار أيّ طائرة تقترب من منطقة القتال هي من طائرات العدو، ولذلك كانت الطائرة الأولى التي تمّ استهدافها هي طائرة مصرية.
حين "تفوّق" الطيران المصري على الإسرائيلي
لم تكلل محاولات السوفييت للتعاون مع المصريين في منع هجمات الطائرات الإسرائيلية بالنجاح الكافي، فقد احتفظ الطيران الإسرائيلي بالقدرة على ضرب المواقع المدنية، وهو ما أزعج عبد الناصر، لدرجة أنّه شكّك بقدرات الجيش السوفييتي في لقاء له مع بريجنيف في أغسطس/ آب 1970.
وفي أثناء هذا الاجتماع، وصل إلى وزير الدفاع السوفييتي تقرير يفيد بأنّ المضادات السوفييتية أسقطت سبع طائرات "فانتوم"، وهو ما أدهش عبد الناصر، لدرجة أنّه اتصل بوزير دفاعه الذي أكّد الخبر.
ومنذ ذلك الوقت، كان السوفييت يعملون مع الجنود المصريين جنبًا إلى جنب في صد الطائرات الإسرائيلية وتدريب فرق الدفاع المصري على التعامل العسكري معها.
لكن ما كان يشغل بال الجميع هو إعادة بناء قوة الطيران المصري الذي دمر تمامًا في حرب الأيام الستة، في وقت كان فيه جنوب مصر مكشوفًا أمام الطائرات الإسرائيلية، وهو ما دفع السوفييت إلى الموافقة على إمداد مصر بلواء دفاع جوي كامل يحمي جنوب مصر وصولًا إلى منطقة السد العالي في أسوان.
في شهادته، يقول ضابط الطيران السوفييتي "جولي" الذي شغل منصب كبير مستشاري عمليات سلاح الطيران، والذي بدأ مهمّته الرسمية في القاهرة في مايو 1970 مع مجموعة من ضباط وجنرالات أسلحة الطيران: "حصلنا على تكليفنا ونحن في موسكو، ويتمثل في نقل وتعميم خبرة العمليات القتالية وتقديم المساعدة للخبراء المصريين لتنظيم وتخطيط العمليات الحربية".
ويضيف: "في الواقع، كان بعض قادة سلاح الطيران المصري ينقصهم الخبرة الكافية، فكان علينا اختيار أساليب وطرق عمل تساعد في رفع الأداء لكيفية استخدام الطيران في المعارك. لكن أكثر ما أدهشني هو وجود مخابئ إخفاء الطائرات التي تحميها من ضربها على الأرض، ويبدو أنّ المصريين قد تعلّموا من حرب الأيام الستّة".
ويردف: "في الفترة بين عامي 1971 - 1972 وصل سلاح الطيران المصري إلى الاكتمال. كان سلاح الطيران وقتها تحت قيادة الفريق أول علي بغدادي واللواء حسني مبارك، بل إن الطيران المصري قد وصل لمستوى التفوق على الطيران الإسرائيلي، أما نحن الخبراء السوفييت فقد تحولنا عمليًا إلى فئة المستشارين".
صعوبات واجهت عمل الخبراء السوفييت
على جانب آخر، كان هناك صعوبات تواجه عمل الخبراء السوفييت في تلك الفترة، وهي الصعوبات التي أفرد لها "يلتشانينوف"، أحد ضباط عمليات الطيران السوفييتي، مساحة من شهادته، حيث يقول إنّ "الحكومة السوفييتية كانت تخفي عن المجتمع الدولي حقيقة مشاركتها في العمليات الحربية إلى جانب مصر".
ويوضح ذلك قائلًا: "لم يكن من حقنا عبور خط الجبهة، كما أن حجم الطيران السوفييتي بمصر كان قليلًا مقارنة بسلاح الطيران الإسرائيلي الذي يضم نحو 400 طائرة مقاتلة، ولذلك لم يكن في قدرة تلك القوات إلا القيام بعمليات دفاعية فقط".
أما عن الحالة النفسية، فيقول يلتشانينوف إنّه "الجزء الأصعب" في تلك الفترة، ويلفت إلى أنّه واجه صعوبات في تهدئة الطيّارين بسبب ممرّات الهبوط التي كان يتمّ تدريب الطيارين عليها باستخدام الكشافات، وهو أمر يحتاج إلى تركيز كبير.
ويقول: "كان الطيران للمرة الأولى في السماء الحربية المصرية يهدف إلى التعرف على منطقة العمليات الحربية، ولذلك كان يقوم اثنان من الطيارين ذوي الخبرة بحماية الطيارين الذين يطيرون حديثًا. لم يكن المهمّ هو التعرف فقط على المنطقة الحربية، وإنما الإحساس بوجود رفاق بجانبك سبق لهم أن التقوا بالعدو في السماء. وبهذا الأسلوب كان يتمّ نقل الثقة إلى نقل الطيارين الجدد وتقليل توترهم عند أول صدام قتالي".
في المقابل، يتحدّث السياسيون السوفييت عن المكاسب التي حصل عليها الاتحاد السوفييتي من دخوله لتلك المواجهة، والتي تتمثّل في أنّ هذا التعاون مع الجانب المصري سمح للاتحاد السوفييتي بالتوغل بالشرق الأوسط، وأن هذا الصراع ساهم في زيادة التعاون العسكري والاقتصادي في المنطقة.
رحيل عبد الناصر وطرد الخبراء السوفييت
في نهاية شهر سبتمبر/ أيلول 1970، رحل جمال عبد الناصر، وكان لوفاته تأثير كبير على ملف الخبراء السوفييت، خصوصًا بعد وصول أنور السادات إلى الحكم، والذي لم يكن مقتنعًا بضرورة وجودهم على الأراضي المصرية.
وكان السادات يرى أنّ قواعد اللعبة تحرّكها الولايات المتحدة الأميركية، ولذلك بدأ في التضييق على الخبراء السوفييت، ولا سيما السفير السوفييتي الذي بدا وكأنّه المندوب السامي البريطاني أيام الاحتلال. ووصل الأمر إلى توجيه الاتهامات للخبراء السوفييت بالتجسس لصالح إسرائيل.
وتدريجيًا، كان التوتر يتصاعد بين الطرفين، ووصل ذروته بعدما لمس السادات أنّ الاتحاد السوفييتي قد بدأ يتباطأ في إمداد القوات المسلحة المصرية بالمعدات والأسلحة.
في تلك اللحظة، كان قرار السادات الشهير بطرد الخبراء السوفييت الذي فسّره كثيرون بأنّه كان جزءًا من خطة خداع السادات، لإيهام إسرائيل بأنّ مصر لن تحارب.
وقابلت موسكو قرار الطرد بهدوء، وقالت إنه لا يسعها إلا الانصياع لرغبة الحكومة المصرية في إنهاء خدمات الخبراء، فيما اعتبرت الولايات المتحدة على جانب آخر قرار الطرد "هديّة بلا مقابل".
ويحكي سفير الاتحاد السوفييتي ما دار في تلك الفترة، فيقول إنّ كلّ الأحداث كانت تشير إلى ضرورة رحيل الخبراء السوفييت عن مصر، وهو ما دفع السفارة في القاهرة إلى تقديم اقتراح إلى موسكو يتضمّن الخروج التدريجي من مصر.
عندها، تمّ استدعاء السفير مباشرة لمناقشته في اقتراحه، حيث يقول في شهادته: "كان وزير الدفاع رافضًا لهذا الاقتراح، وبعد جدال طويل ساد صمت غير مريح. وبعدما عدت إلى القاهرة، وتحديدًا في يونيو 1972، أبدى لي السادات دون أيّ مقدمات، وبعصبية شديدة، أنّه يستغني عن خدمات الخبراء السوفييت".
ويضيف: "لقد كان السادات شخصية متناقضة، فهو من قرّر الاستغناء عن التعاون مع الاتحاد السوفييتي، وقد كنت ألتقيه يوميًا، وكان دائمًا يقول إنّه (سيأتي يوم أروي فيه للجميع ما فعله الاتحاد السوفييتي وخبراؤه وسلاحه من أجل انتصار مصر، كلنا مَدينون لهم)، ولكن لسبب ما لم يأتِ هذا اليوم".