تُعَدّ ثورة التحرير الجزائرية، أكبر ثورة في تاريخ العرب الحديث، وقد خاضها الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي الذي دام لمئة وثلاثين سنة.
ففي الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1954، أعلن الجزائريون ثورتهم ضدّ الاستعمار الفرنسي. وبعد سبع سنوات من النضال المسلّح، تمكّنت الثورة من إجلاء المستعمِر وتحقيق الاستقلال.
إزاء ذلك، تُطرَح العديد من علامات الاستفهام، فبعد 60 عامًا على انتصار الثورة الجزائرية، ما الذي تبقى منها؟ ما الذي تحقق من مبادئها التي تضمّنها إعلان الفاتح من نوفمبر؟
استعادة لمحطات الثورة الجزائرية
في 23 مارس/ آذار عام 1954، تأسّست اللجنة الثورية للوحدة والعمل بمبادرة من أعضاء المنظمة السرية وبعض أعضاء اللجنة المركزية لحزب انتصار الحريات الديمقراطية، وناقشت خيار الكفاح المسلح ضد المستعمر، وأسندت خطة التجهيز إلى لجنة مكوّنة من 22 عضوًا والتي انبثق عنها لجنة من ستة زعماء اختاروا الأول من نوفمبر عام 1954 ليكون موعد اشتعال الحرب وبداية ثورة التحرير، وأصدروا بيانًا بذلك إلى الشعب الجزائريّ.
في هذه الليلة، قامت مجموعات من الفدائيين تتراوح أعدادهم بين 2000 و3000 مقاتل بشنّ 30 هجومًا على مقرات ومراكز الدرك والشرطة والحرس والمكاتب والثكنات العسكرية وغيرها من النقاط الحساسة لسلطات الاحتلال.
تحوّلت اللجنة الثورية للوحدة والعمل إلى جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني، وصدر عنها بيان لتوضيح حقيقة ما حدث في أول أيام الثورة الجزائرية، وجرى توزيعه على الجزائريين بطول البلاد وعرضها، كما أذاعته إذاعة القاهرة تضامنًا، لينتشر منها إلى العالم كلّه.
ودعا البيان جميع الجزائريين الأفراد والأحزاب والمنظمات إلى الكفاح المسلح ضد المستعمر لاستعادة الأراضي الجزائرية المغتصبة وإحياء الدولة الجزائرية التي قاومت الاحتلال الفرنسي وبثّت روح النضال والكفاح في قلوب الجزائريين بقيادة الأمير عبد القادر، والتي قضى عليها في عام 1830.
خريطة طريق الثورة الجزائرية
وأشار البيان إلى نضالات الشعب الجزائري في مواجهة المحتلّ، ومنها أحداث 8 مايو/ أيار 1945، التي راح ضحيتها 45 ألف شهيد، وأحداث 20 أغسطس/ آب 1955 بالشمال القسطنطيني ومن بعدها مؤتمر الصومام التاريخي في أغسطس 1956، وفيه جرى رسم خريطة طريق الثورة الجزائرية اجتماعيًا وسياسيًا وعسكريًا، وأيضًا الإضراب الذي وقع في عام 1958، ثمّ مظاهرات 11 ديسمبر/ كانون الأول 1960، والتي استمرت لعام كامل وواجهها الاستعمار بالعنف الوحشي، ما أسفر عن مئات الشهداء والجرحى.
وشارك الجزائريون المهاجرون إلى فرنسا بمظاهرات موازية في بلاد المحتل نفسه اشتعلت في أكتوبر/ تشرين الأول 1961 وغيرها من محفزات العمل الثوري المسلح ودلائل التضامن الثوري بين أبناء الوطن الواحد في مواجهة عدو واحد هو المستعمر الفرنسي والذي بدأ بالتفاوض مع الثوار في نوفمبر 1959، وانتقلت المفاوضات من مرحلة إلى أخرى من دون أن يتوقف الكفاح المسلح وذلك لمدة ثلاث سنوات متصلة، إلى أن توقف القتال في مارس/ آذار 1962، واحتفل الشعب الجزائري بالاستقلال بعد ثورة ملحمية دامت لسبع سنوات وعدّة شهور.
الثورة الجزائرية لم تكن "مجرد حرب"
ويرى المؤرخ والأكاديمي الجزائري مولود قرين أنّ الثورة الجزائرية لم تكن مجرد حرب كما تصوّرها الكثير من الكتابات التاريخية ولا سيما الفرنسية منها.
ويوضح في حديث إلى "العربي"، أنّ الثورة الجزائرية كانت بمثابة مشروع حضاري كبير في العالم العربي والعالم الإسلامي وذلك لما تضمّنته من مبادئ وقيم إنسانية سامية لعلّ في مقدّمتها قيمة السلم في حدّ ذاته.
ويشير إلى أنّ الجزائريين لم يتبنّوا الخيار العسكري إلا بعد أن انقطعت أمامهم كل السبل السياسية والدبلوماسية، وهذا ما أكده بيان الأول من نوفمبر 1954 الذي دعا بداية إلى المفاوضات بشرط أن تلتزم فرنسا بالشروط التي وضعتها جبهة التحرير الوطني كممثل شرعي ووحيد للشعب الجزائري.
ويلفت إلى أنّ الثورة الجزائرية جاءت كذلك لتحرّر الإنسان من العبودية ومن أغلال الاستعمار بكل أشكاله وهذا ما أكّدته أدبيات الثورة ومواثيقها، ملاحظًا أنّ الجزائريين كانوا يلتزمون بالمواثيق والمعاهدات الدولية ويحترمون مبادئ الحرب وحتى الأسرى الفرنسيين ويعاملون معاملة حسنة.
ويخلص إلى أنّ الجزائريين لا ينظرون إلى ثورتهم بأنها مجرد حرب بل هي مشروع حضاري وإطار مرجعي لا بدّ أن يتقيّد به كل جزائري لأنها وضعت الأسس والخطوط العريضة لإقامة دولة قوية في كل المجالات والميادين.
جهاد وكفاح ونضال ثوري مسلح
باختصار، كانت ثورة التحرير الجزائرية جهادًا وكفاحًا ونضالًا ثوريًا مسلّحًا من أجل تحرير الإنسان الجزائري وطنه ولغته وهويته وثقافته وحضارته، وهي القيم التي حملتها نضالات الجزائريين ضد المحتل الفرنسي منذ القرن التاسع عشر والتي استمرّت مع ثورة التحرير إلى انتصارها في ستينيات القرن العشرين.
بهذا المعنى، حمل البيان الأول للثورة الجزائرية صورة من توجهاتها القيمية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وهو البيان الذي كُتِب أول الأمر باللغة الفرنسية وخضع من بعدها لعدّة ترجمات عربية منها ترجمته في القاهرة التي حملتها الإذاعة المصرية إلى العالم كلّه.
وتضمّن البيان عدّة إشارات للهوية العربية الإسلامية للثورة، منها أنّ من أهداف الثورة الجزائرية إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية، ومنها أيضًا الإشارة إلى أنّ أحد الأهداف الخارجية للثورة هو تحقيق وحدة شمال إفريقيا في داخل إطارها الطبيعي العربي والإسلامي.
وقد تكرّر هذا الأمر بصيغ مختلفة في خطابات ومقالات قادة جبهة التحرير في جريدتي المجاهد والمقاومة، والتي عملت على تحفيز همم الجزائريين للمشاركة في الكفاح المسلح من خلال التركيز على مفاهيم الجهاد وربطها بالعمل الوطني، وهو الحسّ العروبي والإسلامي الذي استمر مع ثورة التحرير في مراحلها كافة.
البعد الإسلامي في الثورة الجزائرية
جاء مؤتمر الصومام في 20 أغسطس عام 1956 ليضع خريطة طريق الثورة الجزائرية ومساراتها الاجتماعية والسياسية والعسكرية، وكان بمثابة مفصل محوري في مسيرتها، واختلف الباحثون والمؤرّخون حول موقع الإسلام، الدين والهوية، من ميثاق الصومام، حيث غاب عن الميثاق الإشارة إلى المبادئ الإسلامية كإطار للدولة الجزائرية المستقلة، وفي المقابل، نفي الصفة الدينية عن حرب التحرير الجزائرية، ما اعتبره البعض انقلابًا على البيان التأسيسي الأول للثورة وتجريدًا للثورة من بعدها الإسلامي وزخمها الروحي.
لكنّ فريقًا آخر يرى أنّ البعد الإسلامي في الثورة الجزائرية معلوم بالضرورة وغير قابل للنقاش والجدل، ومن هنا لا يحتاج إلى إشارة أو توثيق، كما أنّ التخفف من العلامات الدينية في ميثاق الصومام كان لأهداف تنظيمية وتقنية أبرزها قطع الطريق على السياسة الفرنسية لتصوير الثورة في الغرب على أنها حرب دينية.
وفي ما عدا ذلك، تبنى الصومام في ممارساته المبادئ الإسلامية اجتماعيًا وعسكريًا وسياسيًا، سواء في المحاكمات الشرعية للجنود المخالفين لآداب الإسلام في الحروب، أو اشتراط العالمية بالشريعة الإسلامية في من يتولى منصب القضاء، أو غيرها من السياسات والممارسات التي كانت مبادئ الإسلام وقيمه العليا في القلب منها.
مشروع "التعريب الجزائري"
وفي هذا السياق، يتحدّث المؤرخ والأستاذ الجامعي سفيان لوصيف عن مشروع التعريب الذي أرادت الدولة الجزائرية المستقلة تطبيقه على الصعيد الرسمي أو ما يسمى بمشروع التعريب الجزائري واستعادة الجزائر لهويتها العربية الإسلامية.
ويوضح في حديث إلى "العربي"، أنّ الجزائر المستقلة سنة 1962 ورثت مشروعًا ثقافيًا استعماريًا مدته 132 سنة يقوم على "فرنسة" المجتمع الجزائري، وعلى تنصيره وسلبه من هويته الثقافية العربية الإسلامية.
ويلفت إلى أنّ السلطات الاستعمارية الفرنسية أرادت محو اللغة العربية من المجتمع الجزائري فكانت المهمة بعد استقلال الجزائر صعبة جدًا لتجسيدها على أرض الواقع، ملاحظًا أنّ الجزائر ورثت الأمية والتجهيل على أرض الواقع وعملت على محور آثار المستعمر الفرنسي على الصعيد الثقافي.
ويشدد على أنّ الدولة الجزائرية المستقلة نصّت في قوانينها وتشريعاتها على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية كما جاء في دستور الجزائر وقبله في مؤتمر طرابلس وفي ميثاق الجزائر كذلك الأمر.