تطل مدينة يافا الفلسطينية على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، حاملة معها ذكريات عن عذابات ومعاناة الفلسطينيين منذ النكبة عام 1948 وحتى اليوم.
ورغم تشويه الاحتلال الإسرائيلي للتاريخ، تمكن الفلسطينيون الذين صمدوا في المدينة من الاحتفاظ بذكريات أجدادهم وثقافتهم وعاداتهم، ليكونوا تجسيدًا حيًّا لهُوية يافا.
وتجوّلت كاميرا "العربي" في أحياء المدينة برفقة الأكاديمي والسياسي الفلسطيني سامي أبو شحادة، عارضة الغنى الثقافي والتاريخي والفني لأحيائها، ضمن وثائقي "يافا في بطن الحوت".
معركة الرواية التاريخية
بدأت أحداث النكبة في مدينة يافا الفلسطينية، حينما أقدمت العصابات الصهيونية على تفجير ملجأ للأطفال قرب السرايا، ما أدى لاستشهاد العشرات منهم.
وضمن سعيه لتشويه الحقائق، علّق الاحتلال لافتة زعم فيها أنه "دمّر في تلك الليلة مخبأ" لمقاومين فلسطينيين.
ويقول أبو شحادة: "عند حصول الانفجار، ركض والدي إلى المكان ليجد جثث الأطفال متطايرة".
ويضيف: "هذه كانت بداية النكبة في يافا، حيث علم أهالي المدينة أنهم يواجهون احتلالًا لا يعترف بالإنسانية".
ويشرح الأكاديمي الفلسطيني أن سبب تعلّقه بيافا نابع من كونها نموذجًا للأمل وإعادة النهوض من تحت الركام، حيث تعرضت تاريخيًا لعدد من الحروب، إلا أنها عادت وانتفضت من جديد وازدهرت أكثر. ويلفت إلى أن "المعركة اليوم تكمن في الرواية التاريخية".
ازدهار اقتصادي
ويجول أبو شحادة برفقة المحامية والناشطة يارا منصور في أحياء المدينة القديمة، ويمرّ بالقرب من ساحة الساعة التي بناها العثمانيون، ويقول: "عاشت يافا تاريخًا مزدهرًا ولعبت دورًا مهمًا في نهوض فلسطين".
وتوسّعت البلدة القديمة نهاية القرن التاسع عشر، لتضم في ما بعد أسواقًا وسرايا جديدة، إضافة لـ5 مصارف وسينما ومسارح، ما يدل على النشاط الثقافي فيها.
وتغيّرت ملامح السوق القديم الذي بات يفتقر للتجار الفلسطينيين اليوم، وسط تحوّل ديمغرافي بدأ منذ النكبة وما زال مستمرًا إلى الآن.
ويرى أبو شحادة أن "أهمية هذه الأمكنة التاريخية تكمن في حفاظها على الذاكرة الفلسطينية وتناقلها عبر الأجيال بمبادرات فردية نظرًا لغياب أي نشاط رسمي".
من جهتها، تشرح قدرية أبو شحادة، وهي مالكة متجر في يافا، أن "تهجير الأهالي جعل العمل اليدوي ومنتجات الفخّار نادرة، باستثناء بعض المبادرات الفردية".
وتقول: "يحكي الفخار قصص العائلات الفلسطينية التي صمدت في يافا، وهدفنا من هذا الدكان تثبيت الوجود الفلسطيني ومساعدة أبناء بلدتنا على بيع منتجاتهم".
صيادو الأسماك في يافا
يكمل أبو شحادة جولته في أحياء المدينة، ويمر بالقرب من الطريق القديم التاريخي الذي يتجاوز عمره الـ2000 عام، وهو أُنشئ في الأساس ليكون صلة وصل بين ميناء يافا ومدينة القدس.
وبالقرب من هذا المكان، يتواجد المسجد الكبير، الذي كان ثالث أضخم جامع في فلسطين قبل النكبة، بعد "الأقصى" و"الإبراهيمي"، إلا أنه أغلق عام 1948 ليُفتتح من جديد في السبعينيات ويُرمم.
وشهد مسجد يافا بداية العمل المقاوم، حيث كان المصلون يخرجون يوميًا في مظاهرات ضد الانتداب البريطاني، ما أدى لسقوط عدد كبير من الشهداء في الشارع المقابل له.
ويقول أبو شحادة: "المقاومة في يافا استمرت لبضعة أشهر رغم أن الظروف كانت صعبة، لأن كل الجيوش العربية التي تدخلت لم تتمكن من إيصال الإمدادات إلى المدينة".
وبالعودة إلى الميناء الذي لعب دورًا تاريخيًا في النكبة، يشرح رئيس لجنة الصيادين إبراهيم السوري أن المكان بات يفتقر للفلسطينيين نظرًا للتضييق الذي يمارسه الاحتلال، تحت حجة الرغبة بوجود اليخوت الكبيرة التي تدفع رسومًا أكبر.
ويضيف: "يافا قبل النكبة كانت مليئة بالحب والألفة على عكس اليوم، ولكننا صامدون بمساعدة أهالي البلد الذين يساندوننا بمواجهة الضغوطات الإسرائيلية".
مركز ثقافي
بجوار الميناء، يقبع مبنى تاريخي يجسّد مسرح المدينة، وهو كان منزل القائم مقام العثماني، قبل أن يتحول في زمن الانتداب إلى مزرعة لعائلة فلسطينية هجّرت بعد النكبة.
وعام 1998، تم ترميم المكان ليصبح مسرحًا للفلسطينيين لإصدار الإنتاجات الثقافية نحو العالم.
ويقول مدير المسرح محمود أبو عريشة: "هذا المكان هو تجسيد للوجود الثقافي العربي في يافا".
ويضيف: "تنتج يافا الأعمال الفنية إلى كل المدن الأخرى في فلسطين، وهي تعكس قضايا جميع اللاجئين والمهجرين. ورغم ذلك، نواجه بشكل مستمر صعوبات تتمثل بمحاولة إلغاء الثقافة والهوية من قبل الاحتلال".
العمل مع الأجيال الجديدة
يُمنع الفلسطينيون في مختلف المدن المحتلة من دراسة هويتهم وتاريخهم من قبل السلطات الإسرائيلية.
ورغم ذلك، تبرز بعض المبادرات الفردية والجماعية داخل المدارس والمراكز الثقافية، لنشر الهوية الفلسطينية عند الأطفال وجيل الشباب.
وتشرح ماري قبطي، التي كانت مديرة المدرسة الأرثوذكسية في المدينة قبل أن يتم طردها بسبب عملها على تعزيز الهوية الفلسطينية، أنها عملت على تطوير هذه الثقافة ليس فقط عند الطلاب، بل لدى الأهالي أيضًا.
وتشير إلى أن طردها جاء بعد مقالات إسرائيلية تحريضية بسبب دعوتها لجعل نشيد "موطني" إلزاميًا عند الصباح في المدارس الفلسطينية.
وتبرز مبادرات أخرى لتعزيز الذاكرة الوطنية في المدينة، حيث يؤكد رئيس جمعية حركة الشبيبة اليافية رامي صايغ أن "الاحتلال يحاول طمس هويتنا".
ويقول: "الإنترنت لعب دورًا مهمًا في إيصال رسالتنا إلى العالم، وتمكنا في الجمعية عبر منصاتنا من التواصل مع كل العالم".
أحياء تاريخية
ورغم محاولات الاحتلال لطمس هوية يافا، بقيت بعض الأحياء خالدة في وجه كل السياسات الإسرائيلية؛ ومبنى "سينما الحمرا" سابقًا مثال على ذلك.
وشارك في بناء هذه السينما عمال من سوريا ولبنان، لتؤكد على عمق يافا العربي، قبل أن يتم افتتاحها بفيلم لأم كلثوم عام 1935.
وبالقرب من هذا البناء القديم، تتواجد أحياء آل العجمي التي يعود عمرها إلى أكثر من 200 عام، ويظهر ذلك جليًا من نوع الحجارة المستخدمة في البناء.
ويشرح إبراهيم أبو شحادة، أحد أهالي يافا، أن "هذه المنطقة سكنها أغنياء يافا قبل النكبة، وهي تدمج بين الفن المعماري الأوروبي والإسلامي".
حاولت النكبة تغيير الجغرافيا السياسية ليافا، إلا أنها فشلت في تحويل واقعها المكاني، حيث تتوسط هذه المدينة كلًا من بيروت ودمشق وعمان والإسكندرية والعقبة، ما يدعم عمقها العربي.
إلا أن عزل الاحتلال، أوقف التطور الذي عاشته تاريخيًا، لتبقى شاهدة على هوية فلسطينية الباقية رغم كل محاولات الطمس.