أكد المفكّر العربي عزمي بشارة، مدير عام المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أنّ إسرائيل تمارس انتقامًا من المجتمع الفلسطيني بأسره في قطاع غزة، مشيرًا إلى أنّها لا تتجرأ على مواجهة المقاومة تحت الأرض، فتستعيض عن ذلك بتدمير المجتمع الفلسطيني فوقها.
وأوضح في حديث إلى "العربي"، ضمن التغطية المستمرّة للعدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة، أنّ إسرائيل تريد استعادة هيبة الردع بعد الضربة التي تعرضت لها يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول، مشدّدًا على أنّ السلوك الإسرائيلي الحالي يشمل بعدًا ثأريًا بدائيًا متعطشًا للدم وتلقين الدروس.
وفيما رأى أنّ الجيش الإسرائيلي يتبنّى إستراتيجية وصفها بـ"الجبانة" في المعارك، نبّه إلى أنّ المسؤولين الإسرائيليين في الحروب يكذبون كما يتنفسون، ولذلك فإنّ التشكيك فيما يقولونه ضروري. واعتبر أنّ قطع الدواء والغذاء عن أهالي غزة جزء من خطة حربية لا يجوز التعاون معها.
وشدّد بشارة على أنّ اتخاذ موقف عربي جدي وصارم من شأنه أن يوقف الحرب في قطاع غزة، معتبرًا أنّ الموقف العربي، ولا سيما المصري، يجب أن يكون أكثر حزمًا، ومحذرًا من أنّ خلاف ذلك سيؤدي إلى استهانة الغرب بالعرب أكثر في المستقبل.
وإذ لفت بشارة إلى أنّ الإدارة الأميركية بدأت تشعر بالإحراج أمام الأكاذيب الإسرائيلية، استبعد وجود أيّ "اختلافات حقيقية" بين الجانبين، لافتًا إلى أنّ الرئيس جو بايدن يتحدث عن حل الدولتين كرأي شخصي لا كبرنامج ملزم يفرض إجراءات على إسرائيل.
واعتبر أنّ الحديث الأميركي عن سلطة فلسطينية متجددة هو عملية إلهاء عن ضرورة وقف المجزرة وإنهاء الاحتلال.
"وحشية" قصف المستشفيات والكذب الإسرائيلي "الهائل"
وانطلق الدكتور عزمي بشارة في حديثه لـ"العربي"، من الاستهداف الإسرائيلي المتواصل للمستشفيات في قطاع غزة، حيث أشار إلى أنه غير مسبوق لناحية "الوحشية في قصف المستشفيات"، معتبرًا أنّه يشكّل فضيحة للمجتمع الدولي وللمنظمات الدولية وليس فقط لإسرائيل.
وتحدّث في هذا السياق عن "كمّ هائل من الكذب" بشأن أنّ حركة المقاومة الإسلامية تختار المستشفيات لتكون قواعد لها، مشدّدًا على أنّ هذه الفرضية، حتى لو صحّت، وهي ليست صحيحة، فهي لا تبرّر قصف المستشفيات لا أخلاقيًا ولا قانونيًا ولا بكلّ المعايير.
وفيما لفت إلى أنّ زيف الادعاء الإسرائيلي حول المستشفيات ثبت بالأدلة، ذكّر بأنّ الاحتلال يكرّر هذه المزاعم منذ العام 2014، وحتى قبل ذلك، متسائلًا عمّا إذا كانت حركة حماس صمّاء، أم تنتظرهم حتى يأتوا ليقبضوا على مقاتليها، وهل ستترك بنادقها خلفها.
المسؤولون الإسرائيليون "يكذبون كما يتنفّسون"
ورأى بشارة أنّ هذا الكلام فيه "استغباء للناس"، رابطًا إياه بالسعي الإسرائيلي لـ"تحطيم ما يسمى البنية التحتية لغزة وكل مقومات الحياة حتى لا تستطيع الناس أن تصمد أكثر".
واستهجن في هذا السياق الحديث الإسرائيلي عن اكتشاف نفق بالقرب من مستشفى الشفاء، مشدّدًا على أنّه ليس عذرًا لقصف المستشفى، ولا سيما أنّ القاصي والداني يدرك أنّ حركة حماس تستخدم الأنفاق، وبالتالي فإنّ الأنفاق قد تكون موجودة في كل مكان في قطاع غزة.
وفيما لاحظ بشارة وجود تحوّل في خطاب بعض الإعلام الغربي المنحاز لإسرائيل، الذي لم يعد يتبنّى السردية الإسرائيلية كما هي، خصوصًا بالنسبة لمن لديهم بقية من مهنية صحافية يريدون الحفاظ عليها، أشار إلى أنّ هناك وسائل إعلام لا تزال تنشر الرواية الإسرائيلية بدون عين ناقدة أو فاحصة.
ولفت إلى أنّ هذه المعركة مع الحقيقة يجب أن تخاض بلا هوادة لأنّ الحقيقة هي أولى ضحايا الحروب، مشدّدًا على أنّ "حبل الكذب قصير"، ومذكّرًا بأنّ المسؤولين الإسرائيليين في الحروب "يكذبون بقدر ما يتنفّسون"، ولذلك يجب أن يكون هناك تشكيك بكل ما يقولونه.
"أسوأ السيناريوهات" في حرب غزة
عمومًا، جدّد بشارة ما قاله منذ اليوم الأول لجهة ضرورة توقع "أسوأ السيناريوهات" في مسار الحرب، التي قال إنّ أحدًا لا يعرف حتى الآن كيف يمكن أن تنتهي.
ولفت إلى أنّ أسوأ السيناريوهات يجب أن تؤخذ في الاعتبار، بوجود ثلاثة عوامل لم تتغيّر، وهي الإجماع الإسرائيلي على الحرب وأهدافها، والضوء الأخضر الأميركي بوجود رئيس يكرّر الأكاذيب الإسرائيلية، والعجز العربي عن اتخاذ خطوات فاعلة ومؤثّرة.
وشدّد على أنّ أي تغيير يطرأ على أيّ من هذه العوامل يمكن أن يغيّر في المشهدية، لافتًا إلى أنّ ما يقصده هو تهديد عربي حقيقي، أو تغيّر في خطاب الإدارة الأميركية، أو زعزعة في الإجماع الداخلي الإسرائيلي.
وفي هذا السياق، انتقد بشارة ما وصفه بـ"الإسراف" في تحليل الشؤون الإسرائيلية، والتركيز على الحديث عن خلافات في الداخل، مشدّدًا على أنّ هذه الأخيرة لا تسري على موضوع الحرب التي يتّفقون على المضيّ بها حتى النهاية. وقال: "هم متفقون في موضوع حماس وغزة، حتى إنّ التوغل البري تأخّر حتى اتفقوا على الإستراتيجية".
وكرّر القول إنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو انتهت حياته السياسية في 7 أكتوبر، ولن يُنتخَب من جديد، مشيرًا إلى أنّ السؤال الذي يُطرَح حاليًا يتمحور حول توقيت رحيله، إن كان سيحصل الآن أم بعد الحرب. واعتبر الحديث عن أنّ نتنياهو يريد إطالة أمد الحرب حتى لا يُحاكَم "مبالغة عربية".
صفقة تبادل الأسرى وأولوية إسرائيل
في موضوع صفقة تبادل الأسرى، جدّد مدير عام المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات القول إنها لا تشكّل أولوية للإسرائيليين في الوقت الحالي، بمعزل عمّا يقولونه في العلن.
وأعرب عن اعتقاده بأنّ صفقات تبادل الأسرى التي طُرِحت واتفق عليها بين الوسيط القطري وقيادة حماس، وهي عديدة، كانت تُرفَض إسرائيليًا لأن الجيش كان يرفضها، فهم لا يريدون أن يخسروا الاندفاعة في الحرب.
ولفت إلى أنّ الإسرائيليين تخلّوا عن حملة جوازات السفر الأجنبية، ولا يطالبون سوى بتحرير الإسرائيليين، مشيرًا إلى أنّ حماس تريد تحرير المدنيين وهي تعتبرهم عبئًا. كما شدّد على أنّ الأطفال في السجون الإسرائيلية هم أيضًا رهائن، ويجب أن تشملهم أيّ صفقة يتمّ التوصّل إليها.
ورأى أنّ الأولوية تبقى اعتبارات الجيش الإسرائيلي في خطته العسكرية وهو ما يشدّد عليه وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت باستمرار، مضيفًا: "جميعهم متفقون على مسألة الإنجاز العسكري وكلهم يكررون أنّ الطريقة الأمثل لتحرير الرهائن أو الأسرى هي الضغط العسكري الإضافي على حماس".
إسرائيل لا تتجرأ على مواجهة المقاومة تحت الأرض
وهنا، لفت بشارة إلى أنّ ما يسمّيه الإسرائيليون "ضغطًا عسكريًا إضافيًا على حماس"، ليس في الواقع سوى تدمير انتقامي قبلي بدائي ضدّ المجتمع الفلسطيني، والمدنيين، والأطفال، والنساء.
وفيما أقرّ بأنّ إسرائيل لن تتأخّر في السعي لتهجير الفلسطينيين إذا سمح لها الإقليم بذلك، تحدّث عن هدفين أساسيّين تضعهما نصب عينيها اليوم، أولهما هو استعادة توازن المجتمع الإسرائيلي وهيبة الردع، بعد الضربة التي تلقّتها في يوم السابع من أكتوبر.
أما الهدف الثاني الذي يريد الإسرائيليون تحقيقه كما يقولون، فهو القضاء على حركة حماس، "ليس كفكرة، ولكن كقوة قادرة على إدارة قطاع غزة سواء عسكريًا أو سياسيًا"، بحسب ما أوضح بشارة. لكنّه لفت إلى أنّ القوة الرئيسية لحماس هي تحت الأرض، فيما القتال لا يزال متركّزًا فوقها.
إستراتيجية "جبانة" ليست بجديدة
وخلص انطلاقًا من ذلك إلى أنّ إسرائيل لا تتجرأ على مواجهة المقاومة تحت الأرض، فتستعيض عن ذلك بتدمير المجتمع الفلسطيني فوقها.
وإذ لفت إلى وجود انطباع بأنّ إسرائيل تقتل بقصفها العشوائي لقطاع غزة أسراها، اعتبر أنّ هذا السلوك الإسرائيلي ليس بجديد، مذكّرًا بأمر مشابه حدث في العام 1974 بعد عملية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، حين هاجم الإسرائيليون الخاطفين والمخطوفين، وقتلوهم بلا تمييز. ورأى أنّ الجيش الإسرائيلي يتبنّى إستراتيجية "جبانة" في المعارك.
وشدّد بشارة على أنّ الأولوية بالنسبة إليهم تحقيق انتصار عسكري بمعزل عمّا يقولونه لأهالي الأسرى، لافتًا إلى أنّ المطلوب أيضًا أن تشمل أيّ صفقة لتبادل الأسرى، إدخال المعونات بكمية كافية تتجاوز الـ150 شاحنة وإدخال بعض الوقود بكميات كافية لتشغيل مرافق حيوية، معتبرًا أنّ الكرة في ملعب إسرائيل لتوافق على هذه الصفقة أم لا.
تهجير الفلسطينيين ودور العرب
وبالعودة إلى موضوع تهجير الفلسطينيين، وتخفيف عدد السكان في القطاع، شدّد بشارة على وجوب أن يكون هناك موقف حازم في مواجهة هذا المخطط الذي وصفه بـ"المؤامرة".
وفي هذا السياق، تحدّث عن مجموعة خطوات يمكن اللجوء إليها من جانب الدول العربية، التي لم تتّخذ أيًا منها بعد، بينها ما يتعلق بقطع العلاقات، وبينها ما يرتبط ببعض الأمور الإستراتيجية.
وفيما شدّد على أن أهالي غزة لا يريدون أي خصومة سياسية مع أحد، وكلّ ما يطلبونه هو إنهاء مأساتهم، ووقف المذبحة الجارية بحقهم، ذكّر بأنّ الإسرائيليين يتصرّفون في الأزمات بوصفهم قبيلة، بدليل أنّ التصرف إزاء الفلسطينيين اليوم قبلي وفيه تعطش للدماء وإرواء لهذا العطش.
واعتبر أنّ هذا التصرف البدائي القبلي الثأري من المجتمع الإسرائيلي لا يجب أن يُقبَل عربيًا، "لأنّه لو مرّ، سيكون التعامل مستقبلًا مع الأنظمة العربية التي صمتت على كل ما حصل، بهوان وباستهانة".
وفي حين استبعد أن تكون فكرة تهجير أهالي الضفة الغربية إلى الأردن مطروحة، معتبرًا أنّ الجيش الإسرائيلي والأمن الإسرائيلي يحسب الأمور ببراغماتية أكثر قليلًا من المستوطنين، أوضح أنّه بمقدور العرب إفشال خطة التهجير إذا وُجِدت، كما يستطيع العرب فعل أشياء أخرى أيضًا.
وشدّد بشارة على أنّ العرب يجب أن يتصرفوا ككيانات مهمّة حتى لا يستهان بها، معربًا عن اعتقاده بأنّه يمكن إيقاف الحرب في غزة إذا اتخذ العرب موقفًا حازمًا وصارمًا.
المعاناة "الرهيبة" في غزة
من جهة ثانية، استفاض المفكر العربي عزمي بشارة في الحديث عن "الاستعمار الاستيطاني" الذي تقوم عليه إسرائيل، والذي ينتج عقليّات محدّدة، تمنعهم من التفكير بالعدالة، مشيرًا إلى أنّ هذا الأمر متجذر بالثقافة ويحتاج إلى صدمات كثيرة وضغط من الحاضنات الدولية.
وفيما لفت إلى أنّ هذا الضغط غير متوافر في الوقت الحالي، ولا سيما أن الولايات المتحدة بدت أعجز عن الضغط من أجل التوصل إلى مجرد هدنة إنسانية لأيام، شدّد على وجوب عدم التقليل من المعاناة التي يعيشها السكان في قطاع غزة، ولو استطاعوا الصمود رغم كلّ شيء.
وأوضح أنّ ثمّة معاناة رهيبة يعيشها أهالي القطاع في ظل ظروف الحياة الحالية، وفي ظلّ الحصار وقطع الغذاء والدواء والكهرباء، وهو ما أضحى جزءًا من الخطة العسكرية الإسرائيلية، لكنّه استبعد أن تسلّم إسرائيل بعجزها عن القضاء على الشعب الفلسطيني بهذه الطريقة التي جرّبتها مرارًا.
وقال: "حتى في ظلّ هذه المعاناة الكل يزداد حقدًا على الاحتلال وسيخرج جيل جديد أكثر كرهًا لإسرائيل من سابقه".
سرديّة المقاومة ردًا على الأكاذيب الإسرائيلية
وتعليقًا على تقرير صحيفة هآرتس حول دور المقاتلات الإسرائيلية في قصف المحتفلين في غلاف غزة، ربطًا بدعوته السابقة لفصائل المقاومة بإعطاء سرديّتها لما جرى في عملية "طوفان الأقصى"، رأى بشارة أنّ الناس أكثر استعدادًا الآن لقبول سردية المقاومة حول ما جرى في 7 أكتوبر بعد فضح الأكاذيب الإسرائيلية.
وانطلاقًا من ذلك، جدد الدعوة لكشف هذه السردية بكل تفاصيلها، في إطار الدحض المستند على التحقيقات الإسرائيلية نفسها، مع إقراره بأنّ المقاومة تريد 7 أكتوبر أن يدخل كفاتحة للمقاومة التي تُستكمل الآن على الأرض، وبأنّ العودة لتفاصيل يوم 7 أكتوبر باتت تفاصيل قياسًا مع ما ارتكبته إسرائيل في غزة.
لكنّه لفت إلى وجود نوع من النفاق المفروض على الفلسطينيين، يجب أن يتعاملوا معه، وقد يكون كشف السردية جزءًا من هذا التعامل، من دون التقليل من شأن البسالة التي تخوض بها المقاومة معاركها اليوم في قطاع غزة ردًا على الهجوم الإسرائيلي المستمرّ.
هل تستغلّ مصر ما لديها من نفوذ لكسر الحصار؟
وفي موضوع كسر الحصار المفروض على قطاع غزة، جدّد بشارة الحديث عن دور عربي، وخصوصًا مصري، مطلوب في هذا الصدد، استكمالاً لما صدر عن الدول العربية والإسلامية في القمة التي عقدها قادتها في الرياض أخيرًا.
وقال: "أريد أن أصدّق أن القيادة المصرية لديها استعداد لإدخال أكثر ممّا يدخل، لكن طالما أن دولة كبيرة مثل مصر تنتظر إذنًا أو سماحًا من الطرف الآخر كما يسمّونه فهي لا تستغلّ كل ما لديها من نفوذ". وأضاف: "هي دولة كبيرة ذات سيادة ويصنّفها العرب على أنها الأكبر والأهم، ولذلك يُتوقَّع منها أن تفعل أكثر من ذلك".
وفيما شدّد على أنّ "لا أحد في فلسطين يريد خصومة مع مصر"، وأنّ الأمور لا تتجاوز المناشدة، توقع أن تستجيب السلطات في مصر لهذه المناشدة، بل اعتبر أنّ "لا مبرر لعدم الاستجابة"، ولا سيما أنّ "إسرائيل وأميركا لا يمكن أن تفتحا الحرب على مصر فهما بحاجة لها".
وقال: "لم يخلُ الأمر من أدوات وطرق وسبل لإدخال مساعدات إنسانية، واليوم هناك مئات الشاحنات تصطفّ على طول الطريق وتنتظر الدخول، ولا يعقل أنّ مصر تفتقد إلى الحيلة لذلك ولا سيما أنها مدعومة من سائر الدول العربية والإسلامية".
"استهانة أكثر وابتزاز أكثر" للدول العربية
وفي سياق متصل، انتقد بشارة تحوّل رفح إلى مكان للتصوير بالنسبة لبعض القادة الغربيين ومسؤولي الاتحاد الأوروبي، وبينهم رئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي أورسولا فون دير لاين، التي وصف مواقفها بـ"السمجة"، معتبرًا أنها تنطوي على "تواطؤ مع إسرائيل في حصارها".
ونبّه إلى أنّ قطع الدواء والغذاء والطاقة والكهرباء عن غزة جزء من الخطة العسكرية، قائلاً: "لا يمكن أن تقبل مصر بذلك وفي النهاية يجب أن تفعل شيئًا"، ومتسائلاً عمّا ما سيكون موقف إسرائيل من دول لم تستطع أن تفرض إرادتها على حدودها فيما يتعلق بشاحنات دواء وغذاء. وأردف: "من طرف إسرائيل والغرب سيكون استهانة أكثر وابتزاز أكثر ولا حاجة لذلك".
وشدّد على أنّ ما تقوم به إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني هو استهانة بكل الشعوب العربية، بل استهانة بالإنسانية عمومًا، وهذا ما يجب أن يفهمه الحكّام العرب، لافتًا إلى أنّ هناك جريمة تجري في قطاع غزة والمطلوب التضامن مع السكان.
كما استغرب ما وصفه بمحاولة تبرير البعض للمواقف الخاطئة. وانتقد أيضًا قول البعض إنّ حركة حماس "لم تستشرنا" قبل تنفيذ هجومها، مشيرًا إلى أنّ هذه الفرضية تصحّ في كلّ شيء، لتحميل الضحية المسؤولية، وهذا غير جائز.
الإدارة الأميركية "تشعر بالإحراج" أمام الأكاذيب الإسرائيلية
في تقييمه للمواقف الدولية من العدوان الإسرائيلي المستمرّ على قطاع غزة، أكد الدكتور عزمي بشارة أنه لا يرى "خلافًا جديًا" بين الولايات المتحدة وإسرائيل، على الرغم من اعتقاده أنّ الإدارة الأميركية بدأت تشعر بالإحراج أمام الأكاذيب الإسرائيلية.
وقال: "صحيح أنّ الأميركيين يكرّرون أكاذيب إسرائيلية ويعرفون أنها أكاذيب، لكن لم أسمع استنكارًا أميركيًا رسميًا لقصف مستشفى، وكلّ ما حصل أنّ الرئيس جو بايدن طلب بحياء بالتزام القانون الدولي، وليس أكثر من ذلك".
وفيما لم يستبعد بشارة أن تحصل اختلافات لاحقًا وقد تتغيّر الحسابات قليلاً، شدّد على أنّه "حتى الآن لا يوجد تغيير، حتى لو ذرف بايدن بعض الدموع على الضحايا المدنيين كما فعل في مقالته الأخيرة".
سلطة فلسطينية متجددة.. "عملية إلهاء"
وعلّق كذلك على كلام الرئيس الأميركي عن "سلطة فلسطينية متجدّدة"، واضعًا إياه في سياق "عملية إلهاء عن ضرورة وقف المجزرة وإنهاء الاحتلال".
وفيما لفت إلى أنّ القيادة الفلسطينية الحالية غير مشاركة إطلاقًا في مقاومة الاحتلال، اعتبر أنّ الموضوع في فلسطين هو السياسة الإسرائيلية والاحتلال وليس تغيير القيادة الفلسطينية في الضفة.
وقال: "يجوز تغييرها في انتخابات وربما يجب تغييرها لكن بناءً على أمور مغايرة تمامًا لما يتحدث عنه بايدن".
ولفت إلى أنّ هذا الخطاب الأميركي ليس بجديد، مذكّرًا بحرب تحرير الكويت والنقاش الذي جرى حينها بانضمام دول عربية أم عدم انضمامها إليها، والنقاش حول المعايير المزدوجة أيضًا في حينها، حيث وعدت الولايات المتحدة بأنها ستدعو لمؤتمر دولي للسلام، وهو ما حصل في مدريد، "ومنذ ذلك اليوم ونحن نفاوض".
وأشار إلى أنّ الرئيس جو بايدن يتحدث عن حل الدولتين كرأي شخصي لا كبرنامج ملزم يفرض إجراءات على إسرائيل، معتبرًا ذلك "بيع كلام من أرخص ما يكون"، علمًا أنّ هذا الكلام غير الملزم لا توافق عليه إسرائيل.
وأوضح أنّ إسرائيل تفكّر بسلطة في الضفة وسلطة في غزة حتى إنها لا ترفض أن يكون هناك سلطة في شمال الضفة وأخرى في جنوب الضفة، شارحًا أنّ إسرائيل لا يناسبها أن يكون هناك كيان فلسطيني واحد بسلطة واحدة.
التمايز الأوروبي والموقفان الألماني والفرنسي
وفيما خلص إلى أنّ الولايات المتحدة وأوروبا تستطيعان إلزام إسرائيل بحل الدولتين لكن ليس لدى أحد النية لذلك، انتقد الموقف الأوروبي أيضًا من العدوان الإسرائيلي المستمرّ على غزة.
وأشار إلى أنّ المواقف في أوروبا يجب ألا نضعها في سلة واحدة، لافتًا على وجود بعض الدول التي تمايزت كبلجيكا وإسبانيا وغيرهما. لكنّه شدّد على أنّ من يقود أوروبا سياسيًا هما ألمانيا وفرنسا بعد خروج بريطانيا.
ولاحظ أنّ الموقف الألماني أسير لعقد ذنب تاريخية ما أنزل الله بها من سلطان، مشيرًا إلى أنّها أكثر تطرّفًا في ظلّ الحكومة الحالية من السابق، ولافتًا إلى أنّ المستشار الحالي أضعف بلا شكّ، وأقلّ استقلالاً من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل.
أما عن الموقف الفرنسي، فقال بشارة إنّ باريس تريد أن تتمايز عن الولايات المتحدة كدولة، لكنّه لاحظ أنّ كل الطبقة الحاكمة شاركت في مظاهرة ضد اللاسامية. وفيما أشار إلى أنه أيضًا ضدّ اللاسامية، انتقد الحديث المتزايد عن معاداة السامية في هذه الدول.
وقال: "يخرجون في مظاهرات لا تدان فيها الجرائم ضد الأطفال والمدنيين، فتوضع شعارات كأنها أخلاقية، لتغطي على أشكال عنصرية أخرى تُمارَس، وكأنهم يخترعون قضايا غير قائمة حاليًا".
التضامن الدولي "كسر العزلة عن الشعب الفلسطيني"
وأكّد بشارة أنّ المزاج الحالي عربيًا منتفض ورافض لما يحصل، معربًا عن خشيته من أن يصل لحدّ اتخاذ مواقف رافضة لكل القيم والحضارة والثقافة الغربية. وأوضح أنّ هناك "مجموعة قيم كونية نناضل باسمها ونتهم الغرب بالنفاق باسمها، ولا نريد أن نتخلى عن هذه القيم".
وإذ اعتبر أنّ ما يحصل في غزة يشكّل منعطفًا على مستوى الكرامة والغضب، لفت إلى أن التضامن الدولي كسر العزلة عن الشعب الفلسطيني، لكنّه رأى أننا لم نصل إلى المرحلة التي يؤثر فيها هذا التضامن على الحكومات وصنع السياسات.
وأوضح أنّ حركات التضامن شرط ضروري لحصول التغيير لكنها ليست كافية، إذ يجب أن تحصل أمور أخرى لتؤثر على الحكومات، ولا نستهين بها، معتبرًا أنّ هذا أمر يتراكم وسيجد تعبيرًا عنه في الانتخابات البلدية والنيابية وفي الصحف.
كما لفت إلى أنّ بعض وسائل الإعلام الدولية بدأت تتغيّر قليلًا وبات هناك تحفّظ على الرواية الإسرائيلية أكثر من السابق.
هل باتت السلطة الفلسطينية "عدوة نفسها"؟
وسأل بشارة عن التضامن العربي أسوة بذلك الدولي، قائلاً: "نتغنى بالمظاهرات في أوروبا وفي الولايات المتحدة، فيما بعض دولنا تمنع التظاهر، حتى إنّ بعضها يمنع رفع العلم الفلسطيني"، مع تشديده على أنّ الشعوب العربية متعاطفة مع القضية الفلسطينية.
كما كرّر انتقاده للسلطة الفلسطينية التي وصفها بأنّها "عدوة نفسها"، لافتًا إلى أنّ "ثمّة مؤامرة عليها أيضًا"، متسائلًا: "إذا كانت تريد إحباط مؤامرة الانفصال عن غزة، فكيف لا تتواصل مع غزة طيلة 40 يومًا من العدوان الإسرائيلي؟".
وقال: "يجب أن تتواصل السلطة مع غزة ويجب أن تذهب إلى رفح، وعدم قيامها بذلك خطأ كبير". وفيما لفت إلى أنّ قسمًا كبيرًا من قيادات السلطة كانوا مناضلين ضدّ الاحتلال، وأشاد بمواقف عدد منهم في المحافل الدولية، استغرب السلوك الحالي لبعضهم.
وقال: "لا نريد أن نخوض كل المعارك في وقت واحد فهذا جنون، لكن إذا أردنا مستقبلًا لكيانية وطنية فلسطينية، فيجب أن تتخذ السلطة موقفًا وأن تتفاعل مع غزة بشكل واضح وحقيقي".
تجدون في الفيديو المرفق المقابلة الكاملة مع المفكر العربي عزمي بشارة، مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن التغطية الخاصة والمتواصلة لتطورات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.