تشهد أسعار الغاز ارتفاعًا ملحوظًا على مستوى العالم، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى تجدد الطلب على الوقود الأحفوري مع طيّ صفحة فيروس كورونا في بعض البلدان والخروج من الإغلاقات.
كذلك أثّر نضوب التخزين وصعوبة زيادة الإمدادات بعد الاضطرابات التي حدثت في العامين الماضيين على هذا القطاع الحيوي، لكن الأسعار يبدو أنها تأثرت أيضًا بشكل مباشر بقرار روسيا الأخير بتضييق إمدادات الغاز إلى أوروبا، والذي يعتقد الخبراء أنه كان مدفوعًا برغبة فلاديمير بوتين في التحرك ضد أوكرانيا.
فوفق "الغارديان"، تعتمد أوروبا على روسيا في حوالي 40% من إمداداتها من الغاز الطبيعي، وعلى الرغم من توسع الطاقة المتجددة على مدى العقدين الماضيين في القارة العجوز، إلا أن هذا الاعتماد يتزايد مع تحول الدول إلى الغاز، بعيدًا عن الفحم الملوث.
ويبدو أن حلم بوتين وطريقه لغزو ناعم لجيرانه الأوروبيين هو عبر التحكم في إمدادات الغاز والتدفئة المنزلية، لملايين البيوت في القارة العجوز وتحديدًا عبر خط أنابيب الغاز الرئيسي الجديد، "نورد ستريم 2".
ويحقق "نورد ستريم 2" الذي تبلغ تكلفته 11 مليار دولار لموسكو أرباحًا سنوية تصل إلى 15 مليار دولار، وهو عبارة عن خط أنابيب يربط بين روسيا وألمانيا على امتداد 1230 كيلومترًا في قاع بحر البلطيق.
وفي وقت تعرب أميركا عن عدم رغبتها في عدم تشغيله، يستخدمه اليوم الكل كورقة ضغط ومساومة.
غاز الروس شرايين الجسد الأوروبي
يعدّ الغاز الطبيعي بوابة روسيا إلى غزو أسواق الجار الأوروبي، وحلم بوتين لتعزيز نفوذه في هذه القارة التي تستهلك سنويًا نحو 400 مليار متر مكعب منه.
فبالإضافة إلى الإنتاج المحلي، يصل شريان الدفء والطاقة القارة العجوز عبر موردين كثيرين مثل النرويج والجزائر وليبيا وأذربيجان، لكن يبقى أهمهم على الإطلاق هو الجار الشرقي روسيا.
فروسيا هي أكبر مصدّر للغاز الطبيعي في العالم برقم يصل إلى نحو 200 مليار متر مكعب سنويًا، وبلغ عام 2020 نحو 175 مليار متر مكعب صُدّرت لوحدها إلى أوروبا.
أما ألمانيا فهي الدولة الأولى أوروبيًا من ناحية استهلاك الغاز الروسي، لذلك برزت المخاوف من تغيير غاز الروس شرايين وأنسجة الجسد الأوروبي.
ويصل غاز روسيا إلى أوروبا عن طريق مسارين، الأول هو خط "نوردستريم 1" الذي يمر عبر بحر البلطيق ويصل بين روسيا وألمانيا ويمتلك النسبة الأكبر في المشروع عملاق الطاقة الروسي "غازبروم" والتي تمتلك فيه الحكومة الروسية نصيب الأسد.
ودخل هذا الخط مجال الخدمة عام 2012، بمسار منطقي كون ألمانيا هي أكبر مستهلك أوروبي للغاز الطبيعي وتعتمد على ما بين 50 و75% من استهلاكها على الغاز الروسي.
وأصبح "نوردستريم" أطول أنبوب في العالم يمتد تحت البحر بطول يتجاوز 1200 كيلومتر لشحن 55 مليار متر مكعّب من الغاز الروسي إلى أوروبا سنويًا.
بينما يمر الغاز الروسي المتدفق إلى أوروبا من خلال خطوط إمداد أخرى، عبر الأراضي التركية والأوكرانية والبولندية التي تدفع لها روسيا نظير مرور الغاز عبر أراضيها، وهي فاتورة ربما لا تريد موسكو تحمّل تكلفتها ليكون الحلّ بالتالي خطّ "نورد ستريم2".
ففي عام 2015 أعلنت روسيا تدشين الخط الجديد بتكلفة 11 مليار دولار، الذي يمر بخط موازٍ مع سلفه وكذلك بطول مشابه وهو 1230 كيلومترًا ويربط بين أكبر حقول الغاز في مدينتي فيبورغ الروسية ولوبمين الألمانية.
وهذا الخط قد تصل عائداته السنوية إلى 15 مليار دولار، كما يحظى بمباركة ألمانية إذ سيعود بالفائدة المالية والإستراتيجية عليها.
خط غاز قد يكون كلمة السر الحقيقة وراء الغزو الروسي لـ #أوكرانيا، هذه قصة نورد ستريم 2#في_العمق #روسيا_وأوكرانيا #الحرب_الروسية_الأوكرانية pic.twitter.com/ayFLtupUy9
— أنا العربي - Ana Alaraby (@AnaAlarabytv) February 24, 2022
ما علاقته بالهجوم الروسي على أوكرانيا؟
لكن رياح مسار المشروع أتت بما لا تشتهيه سفن الروس والألمان رغم الانتهاء منه بشكل كامل في سبتمبر/ أيلول 2021.
فالأميركيون وحلفاؤهم من الأوروبيين وضعوا العراقيل أمامه، إذ إن مشروعًا بهذا الحجم وبتكلفة منخفضة لموسكو قد يحوّل حاجة الأوروبيين لغاز بوتين إلى إدمان حقيقي في شرايين القارة، ما قد يؤدي إلى التبعية السياسية لموسكو.
ليس هذا فحسب، بل إن ضخ الغاز الروسي عبر "نوردستريم 2"، يهدد باستغناء روسيا عن أوكرانيا كناقل للغاز عبر أراضيها، إذ يمرّ حاليًا نحو 70% من صادرات الغاز الروسي عبر الأراضي الأوكرانية.
أي أن الاستغناء عن أوكرانيا في نقل الغاز قد يضعها على أعتاب كارثة اقتصادية، بخسائر ضخمة تقدر بين مليارين إلى 3 مليارات سنويًا من رسوم العبور.
لذا انتفضت أميركا وحلفاؤها ضد سلاح بوتين "الجيوسياسي" الذي قد يتحكم في القارة العجوز بأكملها، حيث فرضت الولايات المتحدة عقوبات على خط الغاز الجديد في أعوام 2017 و2019 و2020.
في حين لم تستطع روسيا وضع اللبنة الأخيرة فيه إلا في سبتمبر 2021، ورغم اكتمال الخط الجديد، إلا أنه لم يتم استغلاله بسبب استمرار المعارضة الأميركية والغربية له حتى من قبل ألمانيا المستفيدة الأولى منه اقتصاديًا، بعدما تخوفت من تحكم بوتين في مفاتيح الطاقة.
وقالت إن الإذن النهائي سيصدر في النصف الثاني من عام 2022، في خطوة جاءت احتجاجًا على امتلاك شركة "غازبروم" المملوكة للحكومة الروسية نسبة 50% من المشروع.
لذا كان لا بد لبوتين أن يضع اللمستين الأخيرتين والأكثر خطورة اللتين قد تجبران الغرب على القبول بالأمر الواقع.
فاللمسة "البوتينية" الأولى كانت في الربع الأخير من عام 2021، حين خفّضت روسيا إمدادات الغاز إلى أوروبا التي تمر عبر أوكرانيا بنحو 23% في خطوة هي الأكبر خلال 6 سنوات بضربة مزدوجة للرئيس الروسي بعث من خلالها رسالة تهديد أن هذا قد يكون مصير الإمدادات بحال لم تسهل أوروبا إجراءات تشغيل "نوردستريم2".
وفي الوقت نفسه، رفع تخفيض الإمدادات سعر الغاز الطبيعي في أوروبا، فالتهبت فاتورة الطاقة في القارة وارتفعت بنسبة 15% بزيادة سمحت للكرملين بمراكمة احتياطي من العملة الصعبة بشكل قياسي وصل إلى 630 مليار دولار.
وهكذا، امتلأ بطن الدب الروسي بالكثير من العسل الذي سيكفيه خلال شتاء قاسٍ، ما سمح له باتخاذ اللمسة الأخيرة الأكثر خطورة في ديسمبر/ كانون الأول 2021 حيث بدأت ترد تقارير مرعبة عن حشود عسكرية على الحدود الأوكرانية.
فبينما كان العالم يحتفل بأعياد الميلاد عقب جائحة ألغت احتفالات العام السابق، انطلقت التقارير الأميركية التي تحذّر من هجوم روسي لأوكرانيا في أي وقت نهاية ذلك العام مع احتشاد أكثر من 100 ألف جندي روسي على الحدود.
تزامنًا، رفع الروس رايات اعتراضهم على رغبة أوكرانيا في الانضمام إلى حلف الناتو، وأيضًا الشكوى من التعقيدات التي وضعها الأميركيون والأوروبيون أمام تشغيل خط الغاز الجديد.
فبينما ضخ الأميركيون والأوروبيون مساعدات عسكرية كبرى في أوكرانيا، اكتفت ألمانيا ثاني المستفيدين من "نوردستريم 2" بعد روسيا بإرسال 5 آلاف خوذة فقط.
وعليه، تحوّل خط الغاز الأكبر في العالم إلى ورقة ضغط وتفاوض بين المعسكرين، في معركة عضّ أصابع قد يصرخ فيها أولًا من تستصرخه عروقه احتياجًا إلى الجرعات العاجلة من الغاز والمال.