شهد العراق في السنوات الأخيرة، أكبر موجة جفاف في تاريخه نتيجة لعوامل عديدة، منها سياسية وأخرى بيئية، أدت إلى تحويله من بلد يعرف بوفرة المياه إلى بلدٍ يعاني الجفاف، فتحولت مساحات كبيرة من أراضي بلاد الرافدين الخصبة إلى أراضٍ قاحلة.
ففي مناطق الحزام الأخضر للعاصمة بغداد، تأثرت الزراعة بدرجة كبيرة بسبب الجفاف، ما دفع بالكثير من المزارعين إلى ترك بساتينهم بحثًا عن مصدر رزق آخر، رغم تعلقهم الشديد بأرضهم.
وحول هذه الأزمة يقول علي راضي المتحدث الرسمي باسم وزارة الموارد المائية العراقية، إنّ الخطة الزراعية سواء بما يتعلق بالموسم الصيفي أو الشتوي، عادة ما توضع بشكل مشترك بين وزارتي الموارد المائية والزراعة من خلال تقارير ومعلومات ترد من دوائر المحافظات حول الواقع المائي فيها.
ويشير راضي إلى أنه يجب اليوم تحديد مقدار المخزون المائي والإيرادات المائية في العراق، المتوفرة في السدود والخزانات، لمعرفة طبيعة العام المائي الذي يعد عاملًا رئيسيًا في تحديد مقدار الخطة الزراعية التي تقر.
الوقت ينفد أمام الخطر الداهم
بدوره، يحذّر مستشار لجنة الزراعة في مجلس النواب عادل المختار من نفاد الوقت أمام خطر التصحر الداهم، مشيرًا إلى أنه كان ينادي منذ عام 2017 بضرورة النظر في السياسة الزراعية المتبعة لوضع خطة من شأنها أن تكون فعّالة في مواجهة الجفاف.
ويضيف المختار: "لقد دخلنا إلى المنطقة الخطر الحمراء.. نحن نرى حيوانات تنفق بسبب هذه الأزمة ونشهد على عوامل مناخية متقلبة إلى جانب التلوث الكبير واتساع رقعة التصحر.. هذه حركة سريعة لتدهور القطاع الزراعي".
ومن بغداد، انتقل فريق برنامج "عين المكان" إلى محافظة المثنى التي تضم بحيرة ساوة، التي لم يعد موجودًا منها سوى القليل جدًا بحيث تتجه نحو الجفاف الكامل، ورصد تضرر الحيوانات في محمية ساوة بشكل كبير بسبب الجفاف الذي نتج عنه قلة الغذاء وبالتالي نفوق عشرات الغزلان هناك.
وهذا ما أكّده تركي الجياشي مدير محمية ساوة الطبيعية، الذي شرح لـ"العربي" أن الظروف المناخية وارتفاع درجات الحرارة وشح الأمطار كان لها تأثيرًا مباشرًا على كميات الأعلاف الخضراء والغطاء النباتي الذي كان يعتمد عليه، إلى جانب تأثر صحة الحيوانات بهذه التغيرات ونشاطها وخصوبتها.
كما لخص الجياشي ارتباط المناخ بالموارد المائية بالقول إنّ "ارتفاع درجات الحرارة يؤدي إلى تبخر المياه السطحية الموجودة على التربة ما يخفض مناسيب المياه في الأنهار والبحيرات".
في حين أن المياه الجوفية تعتمد بشكل مباشر على الأمطار وهي خزين لموسم الأمطار السابق، وبالتالي "كلما قلت نسبة الأمطار تقل نسبة المياه أسفل التربة وابتعادها عن السطح ما يكلّف مجهودًا ومالًا لاستخراج هذه المياه لأغراض السقي وغيرها".
دول الجوار تعطّش العراق
في السياق، كان لدولتي الجوار، أي تركيا وإيران، دور كبير في جفاف الكثير من الأنهار والبحيرات العراقية، كما شكّلتا عاملًا هامًا في توجه العراق نحو التصحر.
فقد أسهم سد "إليسو" الذي أقامته تركيا على نهر دجلة وتحديدًا على بعد 65 كيلومترًا عن الحدود العراقية، في خفض حصص العراق المائية بشكل كبير وصلت إلى 53%، الأمر الذي سيحرم 696 ألف هكتار من الأراضي الزراعية العراقية من المياه.
ويصف المتحدث الرسمي باسم وزارة الموارد المائية هذا الشق من الأزمة بأنه "الجانب الفني" الذي يتعلق بدول المنبع، كون منابع نهري دجلة والفرات هي من خارج العراق.
وساهم توسع دول المنبع بإنشاء السدود المائية الكبيرة، إلى جانب النمو السكاني الكبير في حوض الأنهر بدول المنبع بتفاقم الجفاف داخل العراق، على حد قول علي راضي.
وطالب مستشار لجنة الزراعة في مجلس النواب عادل المختار بمنع تركيا من إقامة سد الجزرة الذي وصفه بـ"قاتل مياه حوض نهر دجلة"، الذي سيشيّد بالقرب من سد أليسو وعلى بعد مسافة 35 كيلومترًا من الحدود العراقية.
وبحسب المختار: "سيستحوذ سد الجزرة الروائي الذي سيتوسط أليسو والحدود العراقية على كميات كبيرة من المياه التي تطلق من سد أليسو لتوليد الطاقة الكهرومائية والري.. وهنا الكارثة الحقيقة التي ستواجه العراق".
أما المشكلة مع إيران، فهي اقتطاعها روافد نهر دجلة التي يبلغ عددها 42 ما تسبب في انخفاض منسوب المياه نحو العراق بأكثر من 75%.
تكتم حكومي عن حجم الأزمة
وسط كل ذلك، تتكتم الحكومة العراقية عن الإحصائيات الرسمية المتعلقة بالتصحر الناجم عن الجفاف، إلا أن "عين المكان" وجد عدد كبير من التقارير الدولية التي تناولت هذا الموضوع.
وأحد هذه التقارير، صادر عن "بلانيتاري سيكيوريتي إنشياتيف" وهو مركز بحثي أطلقته وزارة الخارجية الهولندية يعني بالمناخ، ويشير إلى أن نسبة التصحر في الأراضي العراقية ارتفعت إلى 39% من مجمل أراضيه، بينما 54% من باقي الأراضي هي مهددة بالتصحر قريبًا.
والسبب هو فقدان العراق حوالي 100 كيلومتر مربع سنويًا من أراضيه الصالحة للزارعة نتيجة التصحر.
والوضع لا يختلف أيضًا في الأهوار التي أدرجتها اليونيسكو على قائمة التراث العالمي، بحيث تراجعت مناسيب المياه فيها نتيجة لتحويل إيران مسار الروافد التي كانت تسهم إمداداتها بـ 18% من مياه شط العرب. فتراجع كميات المياه بشكل ملحوظ أدى إلى تقلص الثروة الحيوانية بشكل كبير.
ونتيجة لتقلص المياه وعدم قدرة المزارعين ومربي الجواميس على الاستمرار في أعمالهم، علت التحذيرات بشأن موجات نزوح داخلية للبحث عن مصادر رزق أخرى، الأمر الذي سيتسبب بكارثة إنسانية لبلدٍ يعج باللاجئين الفارين من أتون الحرب على الإرهاب.
كذلك، تبرز وسط كل هذه الأزمات معضلة جديدة نتيجة الجفاف وهي تراجع الثروة السمكية وبالتالي تراجع أعداد الصيادين بشكل كبير، وارتفاع أسعار الأسماك في السوق المحلي.
وينتظر العراقيون من حكومتهم، حلولًا لإنقاذ بلادهم من الوصول إلى التصحر الكامل وسط اتهامات لها بالتقصير في علاج المشكلة وترشيد استهلاك المياه في القطاع الزراعي خصوصًا.