بين جدران زنزانته المظلمة بدأ العقيد الركن عبد السلام عارف كتابة مذكّراته بعد اعتقاله نهاية عام 1958، ثم شرع في استكمالها بالتعاون مع الصحافي المصري عليّ منير مع استلامه رئاسة العراق عام 1963.
سعى عارف من خلال تلك المذكّرات إلى تسجيل وجهة نظره اتجاه أحداث مفصلية شكلت التاريخ العراقي الحديث، وكان له يد السبق فيها فهو أحد أبرز العسكريين الذين قاموا بإسقاط النظام الملكي وتأسيس نظام جمهوري في العراق، ثم إعادة صياغته عبر انقلابات ثلاثة.
ويقول الرئيس العراقي الراحل في مذكّراته: "إنّ أي ثورة لا بدّ من الإعداد لها إعدادًا دقيقًا. ولا بدّ أنّ يسبقها تهيئة كاملة، وتنظيم للقوى، سواء داخل الجيش أو بين صفوف المدنيين.. وهذا في حدّ ذاته يستلزم قيام منظمة سرية تأخذ على عاتقها مهمة الإعداد للثورة".
وبينما كان عارف يأمل بثورة عسكرية على حلفاء بريطانيا في العراق، كانت المظاهرات الشعبية الحاشدة تجوب شوارع البلاد احتجاجًا على تقسيم فلسطين والدور البريطاني فيها.
قتال العصابات الإسرائيلية
وفي مايو/ أيار عام 1948، كان عبد السلام عارف على رأس إحدى الكتائب العسكرية التي عبرت نهر الأردن لقتال العصابات الإسرائيلية. خاض الجيش العراقي تلك الحروب وهو في حالة سيئة، نتيجة الإجراءات العقابية التي فرضت عليه عقب فشل حركة رشيد علي الكيلاني.
ويروي عبد السلام في مذكّراته كيف كان هو وزملاؤه الضبّاط يقاتلون ببسالة فوق ربى فلسطين، عاجزين عن تحقيق الانتصارات، نتيجة سوء تخطيط القيادات السياسية للحرب.
وتعليقًا على تلك الفترة، يرى الدكتور فاروق صالح العمر، أستاذ التاريخ في جامعة البصرة، أنّ الفشل في حرب عام 1948 كان عسكريًا، لأنه في ذاك الوقت قد وافقوا على الهدنة العسكرية الأولى والتي تنص على عدم زيادة العدة والعتاد.
ويشير العمر في حديث إلى "العربي" إلى أنّ القوات العربية المشاركة في تلك الحرب "التزمت بالهدنة، بينما الطرف الآخر لم يلتزم بها"، لافتًا إلى أنّ "الضبّاط العسكريين هم من تحمّل مسؤولية ذلك".
وفي مذكّراته، يروي عبد السلام عارف: "كنا فوق هضبة تشرف على جنين.. وكنت أصليّ الظهر في أحد الأيام عندما جاءني أحد الضبّاط من أصدقائي يحكي لي عن المأزق الذي زج فيه فوجه بأوامر القيادة.. وأذكر أنني قلت له يومها: إن معركتنا معهم ستكون قريبة..".
أثر عبد الناصر
وفي يوليو/ تموز 1952، تحرك تنظيم الضبّاط الأحرار المصري ليطيح بالنظام الملكي، معلنًا قيام النظام الجمهوري في البلاد، ويستعرض عارف في مذكراته كيف أصبح جمال عبد الناصر الرمز الذي تطلع إليه هو ورفاقه لسنوات تالية.
فكتب: "كان لثورة عبد الناصر الأثر الكبير الذي أضاف إلى إصرارنا إصرارًا على مواجهة كل التحديات التي يفرضها علينا الاستعمار وأعوانه.. وفي عام 1952 بالذات، كانت بداية العمل الجدي.. لقد وجدت ما كنت أفكر فيه يعتمل في نفوس زملاء لي أحسوا بالمأساة التي يعيشها العراق".
وعن تحديد موعد الثورة، يكشف عبد السلام عارف في كتاباته أنه تم الاتفاق على تزامن ذلك مع أي تحرك يطلب من تجمعاتهم ويأخذ طريقه إلى بغداد، ويردف أنه "في الأسبوع الأول من يونيو/ حزيران 1958 تأكد لنا بشكل قاطع أن اللواء العشرين -الذي كنت أعمل فيه- سوف يتحرك إلى الأردن مارًا ببغداد".
وعليه، حمل عارف هذه الأخبار إلى بغداد حيث عقد عدة اجتماعات مع زملائه أعضاء الهيئة العليا، وتم الاتفاق على أن يكون ذلك موعد الحركة وأن يتوقف اللواء العشرون في بغداد للتنفيذ بدلًا من الاتجاه إلى الأردن.
الانقلاب
فبدأ عبد السلام في كتابة تفاصيل خطة الانقلاب، وتوزيع المهام على الضباط الأحرار المكلفين بتنفيذ العملية، كما تسلم قيادة اللواء العشرين نظرًا لغياب قائده آنذاك.
وكانت الخطة تقضي بتحرك عبد السلام عارف وقواته في حملة منسقة، لاقتحام قصر الرحاب وقصر نوري السعيد ووزارة الدفاع، والسيطرة على مبنى الإذاعة.
وفي صباح 14 يوليو/ تموز 1958 تم تنفيذ الخطة كما رسمها عارف، وألقى بنفسه البيان الأول للثورة معلنًا زوال الحكم الملكي وقيام الحكم الجمهوري في العراق.
في ذلك الوقت، كان قصر الرحاب يشهد مجزرة عنيفة انتهت بمقتل العائلة المالكة على يد النقيب عبد الستار العبوسي، ثم قامت الجماهير الهائجة بالتمثيل بجثتي عبد الاله ونوري السعيد.
ورغم حرص عارف على ذكر تفاصيل ليلة الانقلاب، إلا أن الأحداث الدامية التي وقعت صباح اليوم التالي غابت عن مذكراته تمامًا.
ووفق أستاذ التاريخ في جامعة البصرة الدكتور فاروق صالح العمر، فإن المجزرة التي شهدها قصر الرحاب هي صورة سوداء بالنسبة للعراق وقتها، إذ قتلت حوالي 10 نساء إلى جانب فيصل وعبد الإله "بتصرفات شخصية" غير موجهة.
ويضيف لبرنامج "مذكرات": "حسب ما يقال كان الهدف من العملية ألا يقتل فيصل الثاني، بل يسفر إلى خارج البلاد، ليتسبب قتل الأخير بمشكلة كبيرة جدًا بالنسبة لعارف ورفاقه".
صراع جناحي الانقلاب
عقب نجاح الانقلاب، شكل الضباط الأحرار مجلس سيادة بقيادة الفريق نجيب الرباعي، فيما أسندت رئاسة الوزراء ووزارة الدفاع والقيادة العامة للقوات المسلحة إلى الزعيم عبد الكريم قاسم، ليصبح بذلك القائد الفعلي للبلاد، بينما تسلم عبد السلام عارف منصب نائب رئيس الوزراء وحقيبة الداخلية.
لكن الموقف من الجمهورية العربية المتحدة، كان شرارة الصراع بين جناحي الانقلاب، فقد كان التيار القومي الذي يتزعمه عارف وإلى جانبه حزب البعث مؤيدين للانضمام إليها، بينما وقف التيار الشيوعي المدعوم من عبد الكريم قاسم ضد تلك الوحدة.
ليبدأ الخلاف يتسلل بين الصديقين القديمين، وينقسم الشارع العراقي بالتالي تحولت إلى أحداث عنيفة.
ويسرد عبد السلام عارف في مذكراته، وقائع الخلاف العنيف الذي نشب بينه وبين عبد الكريم قاسم عقب الانقلاب بأقل من شهرين، إذ قام الأخير بتجريد عارف من مناصبه وعينه سفيرًا للعراق في ألمانيا الغربية بهدف إبعاده خارج البلاد خوفًا من طموحه السياسي.
إلا أن عارف رفض تسلم الحقيبة الجديدة، وبعد تدخل عدد من الضباط وإلحاح قاسم عاد ووافق عارف على مغادرة البلاد فترة قصيرة لا تتجاوز الثلاثة أسابيع ريثما تهدأ الأوضاع السياسية في البلاد.
العودة إلى بغداد
وبعد انقضاء مهلة الثلاثة أسابيع، لم يوعز قاسم إلى عارف بالعودة فقرر الأخير أن يأخذ قرار العودة إلى بغداد منفردًا، حيث توجه مباشرة للقاء قاسم، وفق العميد المتقاعد والباحث في التاريخ الدكتور صبحي ناظم توفيق.
وعند اللقاء، يستذكر عارف تفاصيل ما جرى بين الرجلين وكتب: "كان يبدو عليه القلق والتوتر، حتى إنني أحسست بأن كل عضلة في وجهه تتشنج.. وقبل أن أتقدم بضع خطوات داخل الغرفة فوجئت بقاسم يقول لي: عبد السلام لماذا عدت؟ ألم تصلك برقيتي للسفر إلى بون؟".
فردّ عبد السلام: "وصلتني برقيتك، ولكنها تناقض اتفاقنا فالأسابيع الثلاثة قد مرت.. لقد كان لي شرف وضع خطة الثورة والإعداد لها وتنفيذها ولم أطلب يومًا منصبًا، ولكنني سأبقى إلى جانب الثورة لأحميها من أي انحراف أو عبث".
ويصف عبد السلام نهاية هذا اللقاء العاصف مسجلًا صدمته من إصدار قاسم الأوامر باقتياده إلى السجن الذي كان آخر مكانٍ يتخيل أن يذهب إليه، بحسب تعبيره.
نهاية قاسم
وفي 27 ديسمبر/ كانون الأول، وقف عبد السلام عارف أمام محكمة الشعب التي أنشأت لمحاكمة رجال العهد الملكي الذي انقلب عارف عليه، لمدة 6 أسابيع، وكان من بين التهم الموجهة إليه محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم.
وفي مساء الرابع من فبراير/ شباط 1959، ازداد التوتر في بغداد حيث قدم 6 وزراء استقالتهم بعد مناقشة صاخبة مع قاسم، ليصدر في اليوم التالي حكم الإعدام شنقًا بحق عارف.
وبقي عارف في سجنه حتى عام 1962، عندما قرر عبد الكريم قاسم إلغاء حكم الإعدام بحقه ووضعه قيد الإقامة الجبرية، بينما كان نظام قاسم في أسوأ حالاته بعدما قام بالتخلص من الشيوعيين عندما أحسهم أنهم يعدون عدة الانقلاب عليه.
وعام 1963، بدأ الضباط البعثيون حركتهم الانقلابية فأطاحوا بعد الكريم قاسم معلنين تنصيب عبد السلام عارف رئيسًا للبلاد وتأسيس مجلس قيادة الثورة، الذي أبقى السلطة الفعلية في يده.
وبثت جثة قاسم عقب إعدامه على التلفاز الرسمي، ليتجاهل عارف التعليق مرة أخرى على هذه الأحداث في مذكراته.